نقرى في تعليقات من نوع "العربية الفصحى هي اللغة متاع القرآن هذاكة علاش قعدنا واحلين فيها" والا "هي اللغة الي حط قواعدها سيبويه ولتوة لا تبدلت". وهي تعليقات تنم عن جهل عميق بعربية القرآن، كما يمكن استقراءها من الرسم العثماني، وبالقراءات القرآنية، وبتاريخ اللغة العربية.
لن أخوض طويلا في قضية عربية القرآن وما هي خصائصها النحوية وكيف تتصل بالعربية الفصحى. يكفي أن أشير إلى بعض الفروقات المهمة بين ما صار يمثل العربية الفصحى المعيارية اليوم، وعربية القرآن كما نستدل عليها من رسم المصاحف العثمانية. على سبيل المثال، وردت جميع الحروف المضعفة تقريبا في المصاحف العثمانية مرسومة بصيغة التضعيف، مثال: من يرتدد*. أما في العربية الفصحى المعيارية، فجميع الأفعال المضعفة تخضع إلى قاعدة الإدغام: يرتد > يرتدد*.
إذا راجعنا سيبويه والفراء وابن جني، سندرك أن التضعيف هو لغة أهل الحجاز، أما الإدغام فهو لغة بنو تميم. الأدهى أن أئمة اللغة العربية المبكرين لم يقضوا بتخيير الإدغام على التضعيف. على العكس من ذلك، أشاروا إلى أن كلتا الصيغتين هي من لغات العربية، وكلاهما جيد. لنقدم مثالا آخر يتعلق بالإملاء. في الإملاء العربي المعياري المعاصر، تعتبر الألف الفارقة حرفا زائدا يكتب ولا ينطق به، وهي تأتي بعد واو الجماعة المتطرفة المتصلة بفعل ماض أو أمر، مثال: ذهبوا/اذهبوا > اللؤلؤ. أما في رسم المصاحف العثمانية، فكل كلمة، سواء كانت فعلا أو اسما، احتوت واوا متطرفة تضاف إليها وجوبا ألف فارقة (هل من معنى لتسميتها بالفارقة في هذه الحالة؟): اللؤلؤ*< اللولوا. وقد قرأ حفص عن عاصم اللؤلؤ = اللؤلوا.
أما عن القراءات القرآنية، فلن أتعمق أيضا في مسألة علاقتها بالعربية الفصحى المعيارية. يكفي أن نشير، على سبيل العرض، إلى اختلاف القراءات في التعامل مع هاء الكناية وميم الجميع التي تسبقها ياء أو كسرة. من المعلوم أن هاء الكناية وميم الجمع، في الفصحى الحديثة المعيارية، إذا سبقتها كسرة أو ياء، كما في عليهم*، وجب كسر الهاء وتسكين الميم: عليهم* = عَلَيْهِم. حسب مسبع القراءات السبعة، أبو بكر ابن مجاهد، كان ابن عامر ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي يكسرون الهاء ويسكنون الميم. إلا إذا لقي الميم ساكن، فاختلفوا. فنافع وابن عامر يكسرون الهاء ويضمون الميم إذا لقيها ساكن: عليهم* = عَلَيْهِم < عَلَيْهِم(و). أما أبو عمرو فقرأ بكسر الهاء والميم إذا لقيها ساكن: عليهم* = عَلَيْهِم < عَلَيْهِم(ي).
ولا حاجة لذكر ما فعله حمزة والكسائي بالهاء والميم حتى لا نزيد الأمر تعقيدا. السؤال هنا: أي من القراءات السبعة يطابق العربية المعيارية الحديثة في معاملة هاء الكناية وميم الجمع؟ ولا واحدة. فهل القراءات مخالفة لقواعد العربية؟ قطعا لا. ليس من شروط القراءة المقبولة، إذا سلمنا بالنموذج المعياري الذي وضعه علماء القراءات القدامى، أن تطابق العربية الفصحى، بل أن تطابق وجها من وجوه العربية. وإذا تتبعنا العبقري ابن جني في تخريجاته النحوية التي التمسها في كتابه "المحتسب" لآلاف ما يعرف بالقراءات الشاذة التي أهملت ونسيت وتركت في دفوف الكتب، وفيها من غريب العربية ما يدهش كل لبيب، فإن وجوه العربية لا تكاد تحصى ولا تعد.
إشارة أخيرة حول مصطلح "العربية الفصحى". لم يقل أي من أئمة العربية القدامى، وعلى رأسهم سيبويه، بمثل هذا المصطلح. بل أن استعمالهم لمصطلحات من قبيل اللغة الفصحى والفصيح يكاد ينحصر في الإشارة إلى أحد وجوه العربية الذي يتخيرونه عن غيره، دون إقصاء الوجوه الأخرى بوصفها "غير فصحى" أو "غير عربية". الحق أن مصطلح العربية الفصحى هو مصطلح حديث، وليد عهد النهضة. وقد نشأ من خضم نقاشات رواد النهضة حول ضرورة إيجاد لغة معيارية حديثة ومبسطة ومنسجمة تصبح هي لغة التجديد العربي في العلوم والآداب. وقد كان ذلك. ومن رحم تلك النقاشات، ولدت العربية الفصحى، ضديدة العربية العامية، كما نعرفها اليوم. وهي ما يسميه اللغويون المعاصرون بالعربية الفصحى الحديثة.
خلاصة القول، العربية الفصحى التي نعرفها وتستخدمها اليوم ليست هي عربية القرآن، ولا هي عربية القراءات، ولا هي عربية سيبويه، ولا هي بلغة بالية طاعنة القدم. إنما هي لغة حديثة مستحدثة من رحم محاولات العرب المعاصرين أن ينحتوا لأنفسهم لسانا معياريا معاصرا يفي بشروط التقعيد والبساطة والإنسجام التي تقتضيها العلوم والآداب الحديثة.