1- يجب تفسير كيف خلق الصراع الطبقي في فرنسا ظروفا غريبة ووضعية سمحت لشخصية متواضعة وشاذة أن تلعب دور البطل". هذه هي المهمة التي أخذها كارل ماركس على عاتقه في نصه الشهير حول إنقلاب لويس بونابارت على الجمهورية الفرنسية الثانية. ففي فجر 2 ديسمبر 1851، كانت وضعية الجمهورية الثانية في فرنسا كالتالي: صراع محتدم بين فئات البورجوازية المهيمنة من خلال ممثليها في المجلس القومي؛ طبقة عاملة مدحورة بعد فشلها في تولي السلطة إثر ثورة فيفري 1848 وتصويتها بشكل أغلبي لصالح لويس بونابارت؛ كتلة كبرى من الفلاحين الصغار غير القادرين على الانتظام السياسي والإيديولوجي وتتحكم في وعيهم ثقافة إقطاعية محافظة وتسلطية.
"حين تضع قطعا من البطاطا في كيس لن تحصل سوى على كيس من قطع البطاطا". بهذه الإستعارة الساخرة، يلخص ماركس موقفه من عجز الفلاحين الذين يمثلون الكتلة الغالبة عدديا في المجتمع الفرنسي على الانتظام في شكل طبقة ملتحمة وفاعلة تنتج إيديولوجيتها وسلطتها السياسية الخاصة، دون أن يخفي إحتقاره لهم. غير أن قول ماركس عن الفلاحين، ينطبق بدوره على البورجوازية في تلك اللحظة التاريخية المحددة.
فقد أنهكت صراعات فئات البورجوازية المهيمنة، وحالة التفكك العضوي التي بلغتها، مؤسسات الجمهورية الثانية، وعلى رأسها المؤسسة البرلمانية. وهي عصب السلطة في الجمهورية الثانية. وعلى وطأة أزمة إقتصادية شديدة ممتدة منذ 1840، صارت صراعات فئات البورجوازية المتناحرة تهدد بالتفكك التام لا لمؤسسات الجمهورية السياسية فقط، بل الدولة الفرنسية نفسها. في هذه الظروف، كان إنقلاب نابليون بونابارت، الرئيس الشعبي الذي انتخب ب74٪ من الأصوات، ووقف منذ انتخابه في صراع مع برلمان الجمهورية داعيا إلى تغيير دستورها لإنقاذها من التفكك.
إلا أن هذا الإنقلاب، لم تكن غايته حسب ماركس تحرير المجتمع من ربقة البورجوازية. إنما، حسب ماركس، "يبدو أن فرنسا قد خرجت من إستبداد طبقة (بورجوازية) لتسقط تحت هيمنة فرد واحد". أي، بحسب تنظير غرامشي اللاحق، قد كان إنقلابا مؤسسا لسلطة قيصرية تنهي حالة التفكك العضوية للدولة الفرنسية. إنما الأدهى، بعبارة ماركس، أن فرنسا وقعت "تحت سلطة فرد دون سلطة.. إذ يبدو أن الدولة قد تحررت تماما من المجتمع، لتخضعه إليها".
2- لا يمكن المرور على نص ماركس عن إنقلاب بونابارت دون استحضار إحدى أشهر جمله:" يبدو أن الأحداث الكبرى والشخصيات التاريخية تكرر نفسها مرتين... الأولى في شكل مأساة، والثانية في شكل مهزلة". دون التعمق في سياق هذه المقولة، التي تستبطن نقدا لفلسفة التاريخ الهيغلية ومقارنة تحقيرية بين جمهورية بونابارت الأول الثورية و إنقلاب بونابارت الحفيد، يمكن القول فعلا أن التاريخ يكرر نفسه لا مرتين فقط، بل في هيئات لا متناهية. وليس التاريخ كسردية حدثية هو ما يتكرر، إنما قوانينه، أو "شروط العمران" التي تحدده بفهم ابن خلدون، أو لنقل إمكاناته المطلقة التي تتفعل في الأحداث العينية كما في فهم دولوز للتكرار والإختلاف ضمن منطق الحدث.
فإذا قرأنا نص ماركس بعيون إنسان يعيش في تونس سنة 2022، لن يخفى عنا التماثل المذهل بين إنقلاب بونابارت على الجمهورية الفرنسية الثانية وإنقلاب قيس سعيد على الجمهورية التونسية الثانية. وهو تماثل لا يلغي اختلافات التاريخ العيني أو الحدثي، من جهة خصوصيات كل حدث وسياقه، لكنه تماثل بنيوي في مستوى قوانين الحدث وشروطه المحددة.
فكما هو معلوم، أتى إنقلاب قيس سعيد ضمن حالة تفكك عضوية للجمهورية التونسية الثانية، وعجز طبقتها السياسية الغالبة عن إنتاج كتلة سياسية مهيمنة ومتلاحمة إيديولوجيا. وقد بلغ هذا التفكك العضوي أشده في الصراعات التي تكثفت في البرلمان، و الأحداث التي أدت إلى إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ. تلك الحكومة التي كانت تشبه كيسا من قطع البطاطا، حيث جمعت قوى سياسية لا مشترك بينها سياسيا أو إيديولوجيا.
في المقابل، كانت الكتلة الاجتماعية المناهضة للقوى السياسية الغالبة أيضا تشبه قطع البطاطا التي لا كيس يجمعها. من ذلك، كانت احتجاجات شباب الأحياء الشعبية و الجهات الداخلية، وحركة المعطلين عن العمل، و مظاهرات الشبيبة الثورية، و مواجهات أبناء الفيراج مع الشرطة، وغيرها من حركات الاحتجاج التي التهبت بشكل عارم سنة 2021.
لكن، رغم تزامن هذه الحركات الاحتجاجية، وتشابه مطالبها، لم تكن الفئات الاجتماعية التي تحركها قادرة عن تكوين كتلة ملتحمة، تنتج إيديولوجيتها وتمثيليتها السياسية الخاصة والموحدة. في المقابل، وتحت وطئة الكوفيد و الأزمة الإقتصادية التي خلفها، صارت مؤسسات الدولة التونسية نفسها مهددة بالتفكك، أو في أفضل الأحوال، بالعطالة. في هذا السياق، كان إنقلاب 25 جويلية.
فاجئ قيس سعيد الجميع. فلم يتوقع أحد منه أن يقدم على خطوة مماثلة، بشخصيته المتواضعة سياسيا وغريبة الأطوار. طرح قيس سعيد حركته السياسية بوصفها إنقاذا للدولة من التفكك والإنهيار. وسايرته في ذلك مؤسسات الدولة، الناعمة والصلبة. وبدأ وجهه القيصري في التكشف بسرعة: رئيس يخطب من علياءه، يحكم بالمراسيم، يعين حكومة خاضعة، ويمرر شروطه رغم أنف كل معارضة.
لكن، وراء هذا الوجه القيصري كانت تتخفى إرادة أخرى: إرادة بيروقراطية الدولة في إكتساب إستقلالية ذاتية عن المجتمع لتخضعه مجددا إلى سلطتها الشاملة. وبالفعل، هذا ما يستنتجه ماركس في خصوص إنقلاب بونابارت، حيث يصف سيرورة "الإستقلالية الذاتية للدولة". فبحكم هذه السيرورة، تعيد بيروقراطية الدولة التنفيذية فصل نفسها عن المجتمع، بعد أن أثقلتها صراعات القوى الاجتماعية التناحرية، وما ينتج عن ذلك من تفكك واختلال دائم.
وحتى تكتمل هذه السيرورة، يمر الجهاز التنفيذي أولا إلى إلغاء مؤسسات الدولة التمثيلية، التي تتم في ساحتها وعبر قنواتها حسم الصراعات بين قوى المجتمع، قبل أن يمر في مرحلة ثانية إلى إلغاء أو تحجيم نفوذ الأجسام الوسيطة في المجتمع المدني التي تنتظم ضمنها قوى المجتمع للدفاع عن مصالحها إزاء الدولة أو في معارضة بعضها البعض. في هذا الإطار، يفهم إلغاء قيس سعيد للبرلمان، وإصدار حكومته المنشور عدد 20 حول التفاوض النقابي، ومقاربته الفوقية لكتابة الدستور، وغير ذلك. كما يفهم أيضا حديث الصادق بلعيد، منسق الدستور الجديد، عن عجز الطبقة السياسية عن حكم الدولة وضرورة تحجيم دورها في الجمهورية الجديدة.
3- لكن، ما الذي يسر هذا الإلتقاء بين قيس سعيد وبيروقراطية الدولة؟ وما موقع مشروع "البناء القاعدي" من ذلك؟ وهل ستقبل القوى السياسية و الأجسام الوسيطة تحجيم دورها بهذه البساطة؟
ربما يمكن تفسير الإلتقاء بين قيس سعيد وبيروقراطية الدولة ب"التآلف الإنتقائي"، بمفهوم ماكس فيبر، بين توجهات الرئيس وشخصيته ومصالح بيروقراطية الدولة. ويتبدى ذلك أساسا في رفض سعيد للأجسام الوسيطة، ودعوته لتوحيد بيروقراطية الدولة التنفيذية وإطلاق العنان لسلطتها، وسعيه إلى تحجيم تدخل القوى الاجتماعية والسياسية في تحديد خيارات وعمل المؤسسات التنفيذية (مركزة التفاوض النقابي مثالا).
هذا التآلف الإنتقائي بين رؤية سعيد للدولة والمجتمع وسعي قوى بيروقراطية الدولة إلى إكتساب ضرب من الإستقلالية الذاتية تحت شعار "إنقاذ الدولة"، يتكثف في أعمدة البناء القاعدي التي أضفت عليها الإستشارة الإلكترونية مسحة من المشروعية الشعبية: سلطة تنفيذية قرارها مركزي في يد الرئيس، سلطة تشريعية ضعيفة ومفتتة بين أفراد منتخبين لا برنامج أو رابطة تنظيمية تجمعهم، وتحجيم نفوذ الهيئات الوسيطة في المجتمع المدني على خيارات الدولة في مجال السياسات العامة.
بالتوازي مع ذلك، يوجد حالة من "التذرر الاجتماعي" أصابت المجتمع من تحت. ونعني بذلك، تفكك القوى السياسية والاجتماعية وعجزها عن بناء إلتقاءات تكتيكية، ناهيك عن جبهات إستراتيجية، لمناهضة مشروع قيس سعيد، من جهة. وتآكل مشروعية الهيئات الوسيطة التي تنتظم فيها القوى السياسية والاجتماعية وعجزها عن تحشيد الأفراد وإقناعهم بالتحرك ضد مشروع سعيد، من جهة أخرى. ولعل الأهم من ذلك، هو تفشي نوع من "السلبية المحايدة" ضمن المجتمع، فحواها فقدان الأمل من أي مشروع تغيير جماعي ممكن، وأن ما باليد حيلة غير التسليم بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة بإطلاق العنان لبيروقراطيتها.
4- يوجد عقبتان أساسيتان قد يؤدي الاصطدام بهما إلى تغيير وجهة ديناميكية 25 جويلية. أولهما، أن يسعى قيس سعيد إلى تحويل هذه الديناميكية إلى مشروع قوة سياسية قد يعتبرها ثورية، عوضا عن مشروع "لإنقاذ الدولة" يلتقي فيه مع بيروقراطيتها. هذا يفترض بدوره أن يطور قيس سعيد ومن معه في مشروع البناء القاعدي خيارات تتجاوز التصور القانوني لهيئة الدولة، لتشمل سياساتها العمومية الإقتصادية والاجتماعية بالأساس.
وإلى حد الساعة، يدير قيس سعيد بإقتدار التوتر بين التطلعات الثورية التي يشاطرها مع رفاقه، وهيمنة التكنوقراط على تحديد السياسات العمومية. وهو ما يتضح في التناقض بين خطاباته عن العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، مثلا، ومشروع الإصلاحات النيوليبرالية التي تتقدم فيه حكومة نجلاء بودن في الظل.
ثانيا، قد يصطدم مشروع قيس سعيد بعقبة أخرى، وهي نجاح القوى السياسية والاجتماعية في إعادة تجديد نفسها وترميم ندوبها وطمس صراعاتها، لتتوحد في مواجهته بفاعلية. وهو إن كان افتراضا مستبعدا في الأفق الراهن، إلا أنه يبقى قائما في كل الحالات. فإن أثبتت النخب التونسية أمرا خلال السنوات الأخيرة، فهو قدرتها الدائمة على التكيف وعقد الصفقات ومنح التنازلات لتضمن إستمرار مواقعها ومصالحها، ولو في هيئات متجددة. وأقدر الكائنات على البقاء، هي أقدرها على التكيف.