النظام الغربي العالمي له ثلاثة روافع أساسية: النيوليبرالية الإقتصادية ورافعتها صندوق النقد والبنك الدولي، التوسعية والدفاعية العسكرية ورافعتها حلف النيتو، والديمقراطية الليبرالية ورافعتها المنظمات غير الحكومية وهيئات الخبراء الدولية ومراكز البحث. قبل الثورة، كان نظام بن علي يلعب لعبة شد الحبال مع روافع النظام العالمي الغربي. فهو يقبل، جزئيا، الخضوع لقوالبها وتوجهاتها بما يضمن مصالحه، فيما يرواغ ويموه في أوجه أخرى قد تضر بتوازناته.
مثال ذلك، تذكر بياتريس هيبو في كتابها "قوة الخضوع" أن تعاون نظام بن علي مع البنك الدولي بشكل دؤوب لم يمنعه من رفض العديد من مقترحاته بإعتماد المراوغة والتمويه. من بين ذلك، رفض نظام بن علي في عدة مناسبات مراجعة منظومة القروض البنكية للتقليص من حجم قروض الإستثمار غير مضمونة الخلاص التي كان يمول من خلالها إستثمارات طبقة رجال الأعمال التابعة للنظام.
بعد سنة 2016، مع توقيع تونس إتفاقية الحليف الأساسي خارج حلف النيتو، انخرطت البلاد بالكامل ضمن المنظومة العالمية الغربية، حيث صارت تصنف على أنها الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي، كما تم إغداق القروض والمساعدات الغربية على تونس بشكل غير مسبوق مقارنة بدول المنطقة.
بعد 25 جويلية 2021، صار هناك توجه واضح لدى الرئيس قيس سعيد لمراجعة العلاقة مع النظام العالمي الغربي. وهي إعادة مراجعة وليست فك إرتباط لسبب أساسي: في حين يحاول قيس سعيد ضمان الدعم الإقتصادي الغربي عبر مساعدات مالية وغير مالية من صندوق النقد والبنك الدولي والدول الغربية، فهو يحاول من ناحية أخرى جعل هذه المساعدات غير مرهونة بالخضوع للقالب الديمقراطي الليبرالي الغربي.
وربما دفع قيس سعيد إلى ذلك دفعا لما واجهه من ضغوطات قوية من جهة الدول والمنظمات غير الحكومية وهيئات الخبراء الغربية في مواجهة مشروعه السياسي. لعل أبرز صورة تبرز هذا التوجه ببلاغة، هو إصدار حكومة نجلاء بودن صباحا بلاغا يؤكد إلتزامها وتقدمها بخطة الإصلاحات التي عرضتها على صندوق النقد الدولي، وإصدار الرئيس ليلا فيديو يدين فيه تقرير لجنة البندقية حول الإستفتاء ويعتبره تدخلا إستعماريا في شأن سيادي داخلي.
بعيدا عن لغة التأييد والشجذب لتوجهات قيس سعيد، يمكن أن نسوق ثلاث ملاحظات. أولا، "دخول الحمام ليس كخروجه"، للأسف. بمعنى أن هناك اندماجا حصل بين تونس والنظام العالمي الغربي لن يمكن إعادة مراجعته بسهولة. فليست منظومة 24 جويلية الحزبية فقط هي التي استفادت من هذا الإندماج، إنما الكثير من الطبقة الإدارية ومؤسسات الدولة الصلبة، مثل الدعم المالي واللوجستي الذي أغدقت به الدول الغربية على وزارة الداخلية والجيش الوطني في إطار التعاون على مكافحة الإرهاب.
ثانيا، يعد الإجتياح الروسي لأوكرانيا منعطفا مهما في هذا السياق، إذ قام النظام العالمي الغربي بتأطير الوضعية بوصفها إعتداء على الديمقراطية الليبرالية وقيمها، وصراعا بين الديمقراطية والتسلطية ممثلة في حكم فلاديمير بوتين. في هذا الإطار، تتصاعد الأصوات من عواصم الحكم الغربية بضرورة تشكيل تحالف للدفاع عن الديمقراطية ضد "الإرتداد التسلطي" الذي بدأ يموج في جميع أنحاء العالم.
ثالثا، أي مراجعة للعلاقة مع النظام العالمي الغربي، تتطلب الارتكاز على جبهة داخلية قوية تضم أهم الفاعلين الإقتصاديين والسياسيين الوازنين، وعلى رأسهم إتحاد الشغل. إلا أن قيس سعيد يبدو مصرا على عكس ذلك. بل هو يغالي في تنفير إتحاد الشغل وصنع العقبات أمام أي إلتقاء متين معه. من جهة، عبر إقصاءه من المشاورة حول برنامج الإصلاحات الحكومية. ومن جهة أخرى، عبر رفض منحه موقعا تقريريا في مسار تأسيس "الجمهورية الجديدة".