لا أحد في تونس كان يسمع برئيس الحكومة الحالي، هشام المشيشي، قبل تسميته في حكومة سابقه إلياس الفخفاخ، أواخر فبراير/شباط 2020 وزيرا للداخلية. ظل الرجل منذ أن تولى هذه الوزارة بعيدا عن الأضواء، فهذه الوزارة ساعة إلكترونية تم تعميرها، وظلت تشتغل سنوات في صمتها المريب. يتغير الوزراء وتتغير القيادات الأمنية، ولكن البناية الرمادية الشامخة في قلب شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تظل تشتغل وفق نموذجها الخاص. يقول بعضهم إن الثورة لم تمر على وزارة الداخلية، ويردّ آخرون بأن عقيدتها قد غدت بعد جمهورية.
ولكن يبدو أن المستفيد الأكبر النقابات الأمنية التي أصبحت ناطقا رسميا باسم الوزارة، فتعملق حضورها الإعلامي والميداني بشكلٍ يدعو إلى الخوف والريبة. صدرت عن بعض النقابات، على إثر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد أخيرا، بيانات هي أقرب إلى تهديد التونسيين والانقلاب على المكسب الوحيد الذي دفعوا من أجله تضحيات جسيمة، كانت دماء سالت وأجسادا عذبت: إنه الحرية.
غادرت حكومة إلياس الفخفاخ بعد أشهر قليلة من الحكم، على إثر شبهات تضارب المصالح. هكذا يقول خصومه. في حين ما زال الرجل وأنصاره يؤكدون أن ذلك كان تصفية حسابات عسيرة مع لوبيات مال وإعلام متنفذة، كانت لها الغلبة في الأخير. وأيا كانت الرواية الصحيحة التي سيطلع عليها التونسيون بعد عقود، فإن الأمور آلت إلى وزير الداخلية في هذه الحكومة، ليخلف الفخفاخ في رئاسة الحكومة ذاتها.
الكل يعلم أن تولي هشام المشيشي وزارة الداخلية سابقا كان خيار رئيس الجمهورية، قيس سعيد، وهو الذي يصرّ دوما أن يتم الاستماع إليه في تعيين الأشخاص في هذا المنصب بالذات. وحين تم تعيينه رئيسا للحكومة، أواخر شهر يوليو/تموز، تعرّض إلى ضغوط خانقة ومذلة من قصر قرطاج، من أجل إملاء قائمة وزراء حكومته، فقد فرضوا عليه فرضا، ومنهم منصب وزير الداخلية الذي عين فيه رئيس الجمهورية منسق حملته الانتخابية، وهو أحد المحامين القاطنين في ولاية ساحلية.
ستبدأ سلسلة متاعب رئيس الحكومة، حتى قبل أن يؤدّي القسم، ويبدو أنه ضاق ذرعا بتدخلات الرئاسة وفي مستويات عدة، الرئيس ذاته ومديرة الديوان الرئاسي ومستشارين كثر. دستور البلاد يمنح رئيس الجمهورية حق أن يُستشار في تكليف وزيري الدفاع والخارجية، غير أنه هو ومحيطه فتحت لهم شهيةٌ، عجز المشيشي عن إرضائها. يذكر المقرّبون من المشيشي أنه تمت إهانته كثيرا إبّان تشكيل حكومته، حتى ارتمى في أول حضن وجده مفتوحا، على أمل أن يواسيه، رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، والحزام السياسي الذي دعمه لاحقا، وهو حزام غريب مكوّن من ائتلاف سياسي يجمع حركة النهضة وحزب قلب تونس (زعيمه نبيل القروي الذي تم إيداعه السجن قبل أسابيع)، فضلا عن قياداتٍ كانت في الأصل من طلبة حزب التجمع الدستوري سابقا (تم حله بعيد الثورة)، وقد شكلوا أحزابا وكتلا فيما بعد، ولهم حضور قوي في مفاصل الإدارة التونسية، وحاضنتهم المدرسة القومية للإدارة التي تخرّج منها المشيشي، فضلا عن ائتلاف الكرامة (تيار عقائدي يقع على يمين "النهضة".)
قرّر المشيشي، ما أن تولى رئاسة الحكومة، وحاز ثقة البرلمان، أن يلعب لحسابه الخاص (وربما لحساب غيره ممن ساندوه)، وقد مزق جلباب أبيه (الرئيس قيس سعيد). وتوترت علاقة الرجلين بشكل مريع، ولم يتوان رئيس الجمهورية في أن يشن هجمات إعلامية علنية على رئيس حكومته، كان فيها كثير من الإهانة. تحمّل الرجل، وقد اختار أحيانا تبنّي استراتيجية "كيس الملاكمة"، غير أن الرئيس لم يكلّ أو يملّ، مراهنا على دفعه إلى الاستقالة. ويبدو أن المشيشي بدأ يناور وتعلّم العوم بسرعة خوفا من الغرق ليس إلا، مستفيدا من رعاية عديدين من مروّضي الأفاعي السياسية، وقد تحولت البلاد إلى حديقة خلفية لمثل هذه الألعاب، المميتة أحيانا.
أقدم رئيس الحكومة، هشام المشيشي، على التخلص من كل الوزراء المحسوبين على الرئيس، فلم يعد يتحمّلهم، وربما شقّوا عصا الطاعة، وتمرّدوا عليه. لقد أقدم على هذا التغيير قطرة قطرة، ثم عمد إلى إتمامه بضربة واحدة، تخلص فيها مما يقارب ثلث حكومته، أي ما يناهز 11 وزيرا. وكان رئيس الجمهورية قد حذر من "مغبة الإقدام" على هذه الخطوة، ولكن المشيشي فعلها. وكان القرار جريئا، غير أن توقيته وجحمه قد شكلا خطأ جسيما، إذ لا أحد يقدم على مثل هذه الخطوة في شهر جانفي (يناير/كانون الثاني)، وهو شهر الانتفاضات في تونس، كما أن حجمه كان ثقيلا.
وبقطع النظر عن السياقات التي دفعت رئيس الحكومة إلى اتخاذ هذا القرار الخطير، فإن تداعياته كانت وخيمة: لقد رفض رئيس الجمهورية استقبال الوزراء من أجل تأدية القسم أمامه. وها هو الأسبوع الثالث يمر من دون أن يباشر الوزراء مهامهم. أصاب الشلل الأداء الحكومي، ثم تندلع احتجاجات ما زالت أسئلة عديدة تطرح بشأن توقيتها ودوافعها وغاياتها. وأخيرا تقع العملية الإرهابية التي طاولت، في أحد الجبال، غرب البلاد، أين تتحصّن مجموعات إرهابية، خمسة من عناصر الجيش رحمهم الله. وقد أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن مبادرة للحوار الوطني، ذهب إليها بعضهم مكرها، ولكن يبدو أنها أصبحت من حكم الماضي، بحكم التطورات في الأيام الأخيرة الفارطة.
لا يمكن للوضع أن يستمر على هذا النحو العبثي. ثمة ثلاثة احتمالات تبدو في الأفق: أن يتراجع رئيس الحكومة جزئيا عن التعيينات، ويذهب إلى القبول باعتراضات رئيس الجمهورية، المستندة إلى شبهة فساد بعض منهم، وقد يتم تزيين هذا الاختراق للدستور وتلطيفه، تحت لافتات المصلحة العليا للبلاد ونبل مكافحة الفساد.. إلخ. هذا الحل هو الأقرب، ولكن ثمنه السياسي والأدبي الذي سيدفعه الجميع بأقساط متفاوتة سيكون باهظا، ولكن الجميع سيبتلعون مرّ الصبار، على أمل أن يتم التدارك لاحقا. الاحتمال الثاني مغادرة رئيس الحكومة الحكم، إما من خلال آلية الاستقالة أو سحب الثقة، وهذا الأمر سيظل مصدر صراع بين البرلمان والرئاسة، حتى تعود العهدة إلى أحد الطرفين.
ولا أعتقد أن يذهب إليه هؤلاء واللعبة ما زالت في اعتقادهم تحتمل جولاتٍ أخرى. في حين يظل الاحتمال الثالث طي صفحة انتخابات 2019 ونتائجها، ما يعني حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة. ومداخل هذا السيناريو الدستورية ستكون عويصة وشائكة، فضلا عن تكلفته السياسية الباهظة لأحزابٍ قد لا ترى نفسها في المشهد الحزبي والنيابي الذي سيتشكل على إثرها، فضلا عن أن الانتخابات ذاتها، إذا ظلت محكومة بالقوانين نفسها، قد تعيد فرز النتائج نفسها، وإن بتعديلات طفيفة.
ثمّة سيناريوهات من قبيل الخيال الفني السياسي الذي لا يخلو من عبث وغرابة: البيان رقم واحد، أو كنس منظومة 2011. لا يعني الخيال استحالة التحقق، فكل شيء وارد، إذا لم نقرأ السيناريوهات جيدا، واستخففنا بقدرة الممثلين وكفاءة المخرجين وما أكثرهم.. ربما ما يعطل تحويل هذا الخيال إلى واقع رغبة المانحين والمستشهرين الذين لا يودّون لهذا الفيلم أن يخرج في تونس الآن وهنا. .. ثمة ما يشدّ المشاهدين والمتابعين ما يكفي، حتى يتم الاعتراض على تحويل هذه السيناريوهات إلى واقع راهن.