لا يكترث طيفٌ واسعٌ من التونسيين بما يجري في بلادهم. قد تهوي البلاد في مستنقع آسن، غير أن ذلك لا يثير خشيتهم. ثمّة جلد تمساح غليظ يلفّهم، ويحول دون أن تُدرك حواسّهم ذبذبات ما يجري لهم. بلادة الذهن التي تحول دون أن يلتقطوا إشاراتٍ لما يجري تحت بصرهم تثير حيرة النخب وإحباطهم معاً، وهم يشعرون أن شعبهم يخذلهم في معركةٍ يخوضونها نيابة عنهم. لكن لا أحد يصدق أن هذه النخب، وهي تنزل إلى الشارع وتعتصم، إنما تدافع عمّا يطمح إليه الشعب هذا. من ينكر أن بعض الغربة تعصف بالمناضلين ضد الانقلاب، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وهم يشعرون بأنهم قلة معزولة؟
يزحف الانقلاب هادئاً "ناعماً" على جبهات عديدة. يمكننا، ببعض الاجتهاد، أن نتبيّن ملامحها، فهي ثلاث جبهات: الأولى تخاض ضد الطبقة السياسية التي حكمت خلال العشرية الفارطة تحت قصفٍ إعلامي رهيب.
استطاع أن يثبت لعديد من الجمهور السياسي أنها مسؤولة عن عشريةٍ تفنن في توصيفها "أنها عشرية الفساد، العشرية السوداء، عشرية الخراب، إلخ". ينتقي الانقلاب من هؤلاء وجوهاً عديدة، بدأت بوزراء وولاة ومسؤولين حزبيين، لتصل، منذ أيام، إلى رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، الذي أُوقف في ظروفٍ غامضةٍ بتهم تتعلق بتبييض أموال على خلفية انتمائه إلى جمعيةٍ ما. يرفض هذه التهم ويعتبرها كيدية، خصوصاً أنه جرت ملاحقته سابقا بتهم غريبة: الاحتفاظ بمواد كيماوية خطرة، وتشغيل عمّال أفارقة في ورشته البسيطة في مدينته الساحلية ومسقط رأسه (سوسة)، بعد أن غادر تقريباً المشهد السياسي، واستقال من حركة النهضة قبل سنوات.
أما الجبهة الثانية التي فتحها الانقلاب، فهي الإعلام الذي رفض الدخول إلى بيت الطاعة، وعلينا أن نقرّ بأن ضحايا الجبهة هذه هم أيضاً أقلية، فبالكاد يلقون تعاطف نقابتهم المهنية. توسّعت الإيقافات، لتشمل مدوّنين ومواطنين بسطاء، كتبوا على جدران "فيسبوك" مواقف لا تروق السلطة. وعادة ما يُحال هؤلاء أيضاً على القضاء العسكري بتهم تتعلق عموماً بالإساءة إلى المؤسسة العسكرية.
أما الجبهة الثالثة، فقد بدأت منذ مدة، حين طاولت الإيقافات بعض رؤساء الجمعيات والمنتمين إليها، وأغلبهم محسوبون على مخيم "النهضة" بالمعنى الواسع للكلمة، تواجههم تهم ثقيلة تخصّ التمويل غير المشروع وصياغة أذرع مالية لحركة النهضة.
لا يتابع الرأي العام ما يجري، وهو منهمكٌ بمشكلاته اليومية التي تلقي به في محيطات الإرهاق اليومي، وراء تدبر الرغيف وغلاء المواد الغذائية التي تختفي من حين إلى آخر: السكر والحبوب، إلخ، فضلاً عن الخدمات التي تسوء في كل صيف: عطل مطولة ودوام لا يدوم. لا تبرر هذه السلسلة الجهنمية من الاهتمامات اليومية المرهقة كل مشاعر اللامبالاة التي يُبديها التونسيون تجاه ما يجري في حياة بلادهم السياسية. لا شي يوحي أن دستوراً ما سيعرض عليهم بعد أقل من شهر. يغيب الجدل العمومي الذي رافق دستور 2014، وقد اخترق آنذاك الطبقة السياسية كلها، فضلاً عن شرائح واسعة من المواطنين التونسيين. لقد تحوّلت الساحات العمومية والنسيج الواسع للمجتمع المدني إلى حلقات نقاشٍ صاخبة تقف عند الحرف الواحد من كلمات الدستور. عشرات النسخ تتنافس وآلاف الاجتماعات التي جابت البلاد.
الآن، لا شيء يوحي أن دستوراً ما يُكتب ليتحكّم فيهم سنواتٍ لا نعرف متى تنتهي. طلب من الحاضرين في لجنة صياغة الدستور الحالي أن يقدّموا مقترحاتهم لتونس سنة 2040، والحال أن الناس غير مهتمين بما ينتظرهم السنة المقبلة.
ما يجري في تونس حالياً يشبه، إلى حد ما، ما جرى في الجزائر خلال أكثر من عقدين، عقب ما سميت آنذاك عشرية الرصاص (التسعينيات). استسلم الجزائريون لأول من فرض الانضباط وأراحهم من سنوات الخوف. غير أن الأسباب في تونس مختلفة، أرهقت التونسيين متابعة صراع عبثي لم يُحسّن من حياتهم اليومية: ظروف عيش وخدمات. ضحّوا، كما الجزائريين، بالحرية، وهم مستعدّون لأن يتنازلوا أكثر من أجل الهدوء الذي ينهي أوجاع الرأس الكثيرة. لم تعد "كراهية الديمقراطية" عنواناً لكتاب ألفه المفكر الفرنسي، جاك رانسيير، بل حقيقة يعبّر عنها رجل الشارع. الباعة وصغار المزارعين والعمال اليوميون وجيش العاطلين يعبّرون صراحة عن مثل هذه المشاعر، وحجّتهم في ذلك حالة الفوضى، والتشتت الذي شلّ مؤسّسات الدولة. هم يرغبون في دولةٍ قوية يقودها رئيس من حديد. هذه التمثلات صاغتها وسائل الإعلام التي رسّخت مثل هذه الثقافة السياسية.
هذه اللامبالاة التي يبديها التونسيون معطى موضوعي لا يمكن إنكاره، ومن المرجّح ألّا تكون الديمقراطية ضحيته الوحيدة. الأرجح أن يشمل المحطات السياسية المقبلة: الاستفتاء على الدستور والانتخابات لن يكونا حدثين يهمان التونسيين. لم تتجاوز نسبة الإقبال على الاستشارة الإلكترونية (تمرين استباقي) 4%، وهي تنذر بهذا. لن تلتهم اللامبالاة هذه الديموقراطية الغضّة والمعتلّة، بل الحياة السياسية برمتها.