غدت المواجهة في تونس، منذ أسابيع، بين رئيس الجمهورية قيس سعيد وزعيم حركة النهضة، رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، معلنة مفتوحة على كل الاحتمالات. لم تكن العلاقة بين الغنوشي وسعيد منذ عرفناه دافئة، خصوصا أن الأخير لم يكن يعبر عن عواطفه ومشاعره وأفكاره، مكتفيا في المرات القليلة التي تكلم فيها بإبداء آرائه في قضايا دستورية. كان يتجنب الخوض في المسائل السياسية بشكل مباشر، علاوة على ما عرف به من "تلغيز للخطاب" والإيغال في استعاراتٍ تميل نحو الأحجية المفتوحة على كل الإجابات الممكنة. ومع ذلك كله، صوتت "النهضة" بكثافة لسعيد عند انتخابات 2019، سواء بدعوة قياداتها أو صفحات التواصل الاجتماعي المحسوبة عليها، ولعلها حين تتذكّر هذا تعضّ أصابعها حتى تدميها.
كان قيس سعيد، حتى قبل الرئاسة، مجافيا لحركة النهضة. ويقول بعضهم إنه شارك في اعتصام الرحيل سنة 2013 لأسباب، فالرجل كان يرى في الحركة خصما محتملا، يحول دون ترجمة "فكره الحديد"، كما يشير في خطاباته الكثيرة، فضلا عن إمكانية أن تكون جدارا ينكسر عليه حلمه بالرئاسة وطموحاته التي لا حد لها. لم يكتب الرجل أعمالا ولا مقالات حتى نفهم ملامح نظريته، ولكن الواضح من تصريحاته أنه معادٍ للديمقراطية التمثيلية، راغب في ديمقراطية مباشرة تتدرّج من المحلي إلى المركزي. لم يشر مطلقا مند أكثر من سنة ونصف السنة على توليه الرئاسة إلى النخبة أو أدوارها. وإذا لمح لها فبشكل فيه إدانة وتحقير، كما أنه لا يؤمن بالأحزاب. ولقد ظل متحفّظا على مجرد الالتقاء بها إلا عند الاقتضاء. لم يلتق تقريبا بأي مثقف أو مفكر، وقد التقى مع مغنين أو ممثلين.
سقطت حكومة الحبيب الجملي في البرلمان، وتولّى الرئيس سعيد، في سياقات استثنائية ووفق الدستور، تعيين رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، التي سرعان ما تم إسقاطها، ولعبت حركة النهضة دورا بارزا في ذلك، بقطع النظر عن شبهة تضارب المصالح التي استعملتها للإجهاز على تلك الحكومة. بدت الشقّة تتسع من جديد بين "النهضة" من جهة وقيس سعيد وأنصاره من جهة ثانية.
حرب صامتة كانت تجري في البداية، لها عنوان كبير، هو حدود الصلاحيات، فقد أنكر سعيد على الغنوشي الدبلوماسية البرلمانية التي كان يمارسها، خصوصا تصريحاته المتعلقة بالحرب الأهلية الليبية آنذاك، وبعض تحرّكاته الأخرى، على غرار حضوره منتديات دولية، وتحدثت مصادر عن رفض سعيد تلك التحركات وتدخله من أجل إلغائها.
وقد انطلقت منذ أشهر مناوشات حدودية بين الرجلين، وكل منهما متمترس بجهازه وحصنه، قرطاج وباردو، غير أن هذه المناوشات تحولت إلى قصف منتظم، لا يكفّ الرئيس عن إتيانه كلما أتيحت له الفرصة أمام كبار مسؤولي الدولة، وحتى بين حصون ثكناتها، وهو ما لم تتعود عليه الثقافة السياسة للتونسيين. نقلت التلفزة خطاباتٍ هي أقرب إلى تقريع مدرس تلميذا طائشا. كان سعيد يصرخ في وجه كل من يقابله غضبا وحدّة: رئيس الحكومة، رئيس البرلمان، وزراء .. إلخ، حتى عادت أمنيةً أن يراه مواطنوه مبتسما. ينقل التلفزيون التونسي مقاطع يبدو فيها من يقابل الرئيس مطأطئ الرأس، لا صوت له ولا حركة غير حركة الرأس، تشير إلى التأييد والامتثال، في تقليد ربما مستوحى من آخر أباطرة كوريا الشمالية.
صرح الرئيس، في سياق خطابه الحربي، أن منصات صواريخه مستعدّة للانطلاق، لتصيب خصومه في مقتل. وانتقل مباشرة إلى الاستيلاء على مزيد من الصلاحيات، وتوغل في أراضٍ محاذية له: رفض أداء اليمين للوزراء في التحوير (التعديل) الوزاري الجديد، إلحاق المؤسسة الأمنية لسلطاته المباشرة، إضافة إلى القوات العسكرية، وجعلها تحت وصايته، في تأويل شاذ لفصول الدستور، حسب خبراء عديدين في القانون الدستوري، منهم رافع بن عاشور، هيكل محفوظ، سلسبيل القليبي وغيرهم. ولم يتورع رئيس الجمهورية عن نشر الغسيل الداخلي أمام أجانب التقاهم في تونس أو خارجها، الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي ووزير خارجيته سامح شكري، وغيرهما، في انتهاك تام لمبدأ السيادة الداخلية.
بعد صمت طويل، ردّت حركة النهضة أخيرا في بيان حادّ على كل ما تعتقد أنه خرقٌ للدستور وتجاوزات خطيرة، وكان لائحة إدانة سياسية. ورد الرئيس، في المقابل، بتصريحاتٍ نارية، تفيد بأنه يقابل التحدّي بالتحدّي، وأنه لن يُهزم. ومن يستمع له للوهلة الأولى يتوهم أن في تونس دولتين تتصارعان، على غرار ما حدث في اليمن.
ويتوجس التونسيون من اندلاع صراع بين الطرفين قد تستعمل فيه أجهزة الدولة الأمنية والإدارية، والأرجح أن يظل هذا الصراع مفتوحا، ولكن ضمن حرب استنزاف ومناوشات محدودة، فالمواجهة بين سعيد و"النهضة" على غرار ما عرفته البلاد سنة 1991، حينما وجّه الرئيس بن علي ضربة قاصمة لحركة النهضة، مستبعدة، لأسباب عديدة، لعل أهمها أن سعيد يخوض هذا المواجهة من دون ذراع حزبي يعبئ لهذه المعركة، وما يقتضيه من تنظيم يستحوذ على ميدان المعركة ويوجهها. كما أن قيادات مؤسسة الأمن ألمحت، في أكثر من مرة، آخرها إبّان احتجاجات جانفي (يناير/ كانون الثاني) الماضي، عن تبرمها بالسياسيين الذين يشعلون نيرانا ويطلبون منهم إطفاءها ولو بجلودهم، علاوة على قطع تونس، إلى حد كبير، مع "قضاء التعليمات".
أما "النهضة" فإن خاضت هذه المواجهة، فلن تكون لها "مظلومية" 1991، حين واجهت بن علي، فخصمها هذه المرّة، أي قيس سعيد، لا يستند، في عدائه لها، إلى خلفية "علمانية استئصالية" كما تردد الحركة دوما، بل على خلاف ذلك، يقف الرئيس على خلفية دينية محافظة، تشرّع لحربه هذه، استنادا إلى معجم ديني خالص: الاستقامة، الشهودية، الأمانة ...
لذا حال عودته من القاهرة، أعلن عن ساعة الصفر التي انطلقت من جامع الزيتونة، وبمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، حتى تبدو المعركة كأنها إحدى غزواته المقدسة. تجد "النهضة" أيضا نفسها هذه المرة شبه معزولة، وقد تكتل عليها خصومها مصطفين وراء سعيد، حقا أو باطلا. ولا يمكن أن تجيز كراهية "النهضة"، كما قال أستاذ القانون (درّس سعيد)، عياض بن عاشور، السماح لمثل هذه النزعات الدكتاتورية لرئيس الجمهورية التي لم تعد خافيةً على أحد، حسب قوله.
ومع كل ما يبدو أنه استعداد لمعركة كسر العظم، فالأرجح لدى كاتب هذه المقالة أن المعركة لن تندلع، وستظل أقرب إلى حرب استنزاف باردة، مفتوحة على مناوشات محدودة في انتظار احتمالين: حوار بين الفرقاء أو استسلام أحدهم. ثمة مناخ إقليمي غير راغب في أن تندلع معركة في تونس، ليس حبا في حركة النهضة أو قيس سعيد، إنما رغبة في استقرار يتفرغ فيه هؤلاء لمصالحهم الخاصة… الرسائل واضحة، ولكن ثمّة من لا يقرأها بشكل صائب، وتلك معضلة كبرى قد تفسد ما بنيناه من يقين بأن الحرب لن تندلع.