داخل النخب التونسية معركة تتأجّج حينا، وتخبو حينا آخر، تجري بين القانونيين وغيرهم من مختصي العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولكنها ظلت تطفو على السطح، كلما تعلق الأمر بأزماتٍ تتداعى إليها النخب من أجل أن تقترح لها حلولا. لا يتعلق الأمر بتونس فحسب، بل بمجتمعات عديدة تتيح لنخبها هذه أن تعرض وجهات نظرها في فضاء عمومي، حتى يتمكّن الرأي العام من فرز (وتمييز) بعضها عن بعض.
تضم فئة القانونيين كل من كان تعليمه الجامعي في اختصاص القانون، أو شغل وظائف ومهنا قانونية، على غرار المحاماة والقضاء وتدريس القانون بكل اختصاصاته، أضف إلى ذلك المهن المساعدة للقضاء، على غرار عدول الإشهاد والتنفيذ ومختلف الهيئات الوطنية الموكول إليها شرح القانون وإنفاذه. جيش عرمرم ممن لا ينطقون عن الهوى، بل "بالحق ينطقون"، وفي اللغة العربية التباس بين القانون والحق، إذا ما أردنا ترجمة ذلك إلى مفردات أجنبية.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي، ميشال كروزيي، الذي تخاصم كثيرا مع القانونيين: "لا تستطيع الأوامر القانونية أن تغير المجتمع". ويردّ عليه خصومه من أهل القانون ورجالاته بأن ما من مجتمع تغير إلا تحت ضغط القانون. يقدم هؤلاء عشرات الحجج من تونس وغيرها. سارع بعضهم إلى استعراض مجلة الأحوال الشخصية، وكيف سرّعت تحرير المرأة، وغيرت من بنى العائلة وقيمها في زمن وجيز. أغلب بناة دولة الاستقلال في تونس كانوا من رجال القانون بالمعنى المشار إليه سابقا.
كان الرئيس الحبيب بورقيبة وصالح بن ويسف وأحمد المستيري والهادي نويرة خريجي قانون. استطاعوا أن يكونوا نخبة صلبة انتدبت طيفا واسعا من خريجي الجامعات الفرنسية من اختصاصات مختلفة، ولكن هيمنة رجال القانون ظلت واضحة، حتى شكلوا نموذجا في إدارة الدولة وحكم المجتمع، كانت تجلياته واضحة: تحديث قسري، دولنة المجتمع، وفيض من القانون، ما أدّى إلى انكماش رافعات أخرى، كان الرهان عليها ممكنا من أجل أن تجري القيم في شريان المجتمع، بالتوازي مع القانون. وقد أثار القانوني والأستاذ الجامعي، عياض بن عاشور، هذه المسألة في أحد كتبه القيمة، محاولا أن يقف في منطقة وسطى.
استطاعت نخبة الحقوق/ القانون تلك، وفي سياقات مخصوصة، أن تستوعب معها قيادات قادمة من آفاق معرفية أخرى، على غرار الأدب والاقتصاد. وقد بيّن منير الشرفي، في كتابه "وزراء بورقيبة"، هذه النواة الصلبة من أهل الحقوق. ثم ما فتئت الجامعة التونسية أن غذّت هذه النخب وتكفلت باستمراريتها.
وظلت هذه النخب حاضرةً في المشهد السياسي مع بن علي، إذ تولى عشرات من خرّيجي الحقوق ومدرّسيها وممتهنيها حقائب وزارية، علاوة على المستشارين الذين شكلوا بيت خبرة على ذمة النظام. تبوأت هذه النخب، منذ الثورة في العام 2011، مكانة حاسمة، وتصدّرت المشهد الإعلامي والسياسي مجدّدا، واستطاعت، نظرا للتجربة والخبرة التي راكمتها، أن تتبوأ مكانة مهمة في المشهد السياسي، فباستثناء المنصف المرزوقي، قدّم القانونيون رجلين منهم لرئاسة البلاد، الباجي قائد السبسي وقيس سعيد، فالأول محام والثاني جامعي يدرس القانون الدستوري.
استطاع أهل الحقوق، مع بعض التعميم، أن يضمنوا مكانةً مرموقةً، مستندين على خبرتهم التي مكّنتهم من تملك "ملكات وكفاءات"، وحاسّة شم قوية، تدعمها لوبيات متنفذة ودوائر قرار ومصالح. انتشروا في منابر الإعلام، حتى نشّط (قدّم) بعضهم في التلفزات منوعات وبرامج مختصة في الأغاني والمسرح والصحة والتجميل والعمل الخيري، بل رأينا محامين في استوديوهات إعلامية، تخوض في كل المواضيع من أزمة الماء إلى معارك ليبيا وجائحة كوفيد .. إلخ.
يفتي هؤلاء في كل شيء، ويستحضرون الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وأصغر بلدية في تونس. وشكّل هذا حرجا لعمادة المحامين، فاتخذت قراراتٍ زجرية ضد بعض هؤلاء، ولكن عجزت، في النهاية، عن لجم آخرين.
وفي كل المنعطفات التي عرفتها تونس، استطاع هؤلاء أن يكيفوها وينظروا إليها من زاوية قانونية بحتة، وأشاعوا في الناس معجما قانونيا، تتناسل منه المفردات، حتى ساد اعتقاد أن البلاد تحتاج مزيدا من القوانين. ويتناسون أن الأمر لا يعود إلى نقص في القانون، فأمراض تونس المستعصية لا يمكن ردّها إلى هذه العوامل على أهميتها، فهناك ديمقراطيات عريقة لا توجد فيها دساتير أصلا، ولا كل هذه الترسانة القانونية.
كلما مرّت البلاد بأزمة، سارع أهل القانون في تونس إلى طلب تنقيح ما تقادم من قوانين أو ابتكار الجديد منها، وتصيد بعض منهم حالات "الفراغ القانوني" للمناداة بمزيد من القوانين، كما أشير أعلاه.
أزمات تونس، وما أكثرها، ليست ناجمة عن نقص في القوانين، بل في روح القوانين التي تنبض بثقافة الشعب وقيمه وبناه الرمزية.
ثمّة فائض وتورّم قانوني أصاب القانون ذاته في الصميم. هناك ما يشبه الكفر بالقانون حينما نرى الفساد يستشري، فيما تدّعي ترسانة من القانون والهيئات مكافحته. كما هناك قوانين رائدة في مقاومة العنف المسلط على النساء، غير أن تونس في مرتبة متقدمة في هذه الظاهرة. وقس على ذلك عشرات القوانين الرائدة، ولكن الممارسات والبنى الذهنية ظلت متخلفة عن تلك القوانين، بل مناهضة لها.
لقد تحوّل القانونيون إلى عبء على الانتقال الديمقراطي، حينما حاصروه بالقوانين فحسب.