الأجيال الراهنة، وحتى التي من قبلها، لم تعرف الأوبئة إلا قليلا، بل ربما لم تزر مطلقا "متحف الأوبئة"، من خلال ما تركه الأدب الإنساني الخالد الذي كتب في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن الفارط. رواية الفرنسي ألبير كامو "الطاعون" تظل أرقى ما كتب من أعمال عظيمة في هذا الموضوع.
عاش الرجل في الجزائر ردحا طويلا، واستوحى من انتشار وباء الطاعون في مدينة وهران أحداث روايته الفذة. اختلف النقاد في تفاصيل كثيرة، ولكن العمل يظل من أبرز تلك الآثار الأدبية التي عبّرت عن النزعة الوجودية والإنسانية. يوميات مدينة يتم عزلها عن العالم، لتلتقي شخصيات مختلفة المشارب والمراتب: رجل الدين، الطبيب، الصحافي في مربع ضيق ومحاصر يلتهم فيه الموت الجميع في سياقات مختلفة. اختفت تلك الأوبئة، وانحسر مجالها وآثارها.
كان للتقدم العلمي دور حاسم في تخليص البشرية من أوبئةٍ كانت مهلكة بشكل مفزع. سردية الموت التي تنسج كل تلك الأعمال الأدبية تقف دوما على شعائر العبور التي تفتح حتما على مشاهد موتٍ عبثيٍّ يجتاح المجتمعات، فيقتل أحيانا أجمل قصص الحب، ويمزّق عرى القرابة، ويضع الإنسان عاريا أمام أقبح وأجمل ما فيه في الآن ذاته، وهو على شفا حفرة الموت الواسعة التي يحاول الهروب منها عبثا.
اختفى "أدب الأوبئة" تدريجيا، فاسحا المجال للسينما الهوليوودية التي حوّلته إلى إثارة وتشويق لا يخلوان من استعراضٍ للقوة والعظمة، مراهنة على الإبهار وأسر البصر في متعة الفرجة العابرة. وتنقل إلينا وسائل الإعلام، وبشكل غير مسبوق، يوميا مشاهد المدن المعزولة، وتقدّم، في نشراتها أرقام الموتى، فيما يشبه عدادا كبيرا ترقص عقاربه على وقع احتضار جماعي لا يتوقف، صاعدا باستمرار في قمم رسوم الإحصاء وجداولها. لا أحد منا يدرك أن وراء تلك الأرقام بشر كانت لهم حياة جديرة بأن تحيا على مرارة بعض ما شابها.
تشكل الأوبئة اختبارا حقيقيا، نمتحن فيه مشاعرنا الإنسانية. ربما تأخذنا الحروب، على الرغم من بشاعتها، إلى الانتصار لأحد المخيمين المتصارعين في معركةٍ نتوهم أنها معركتنا، ولكنها وحدها الأوبئة هي التي تضع البشرية أمام مرآة الحقيقة. كشف وباء كورونا أن البشرية جابهت، إلى الآن، هذا الوباء بشكلٍ لم يسلم من الأنانية التي لا تليق بإنسانيةٍ تزعم أنها رسخت المشترك الكوني ضميرا لها. تؤكّد منظمة الصحة العالمية أن الدول الأعضاء لم تلتزم بمعظم الاتفاقيات التي صادقت عليها، وأنها تصرّفت منفردة، ولم تلتزم بما تعهدت به من ضرورة التنسيق بينها، حتى تتحد الجهود وتتضافر الإمكانات من أجل التغلب على الوباء.
لقد تلكأت دول أوروبية عديدة، وهي الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثلا، في مساعدة إيطاليا وهي تستغيث طالبة المساعدة، خصوصا أنها لم تتوقع أن تكون الكارثة بذلك الحجم، بعد أن تهاونت في التعامل مع الوباء في المراحل الأولى تحديدا.
أما اختفاء المواد الغذائية نتيجة الاحتكار، وهي ممارساتٌ انتشرت في بلدان عديدة، ومنها البلدان العربية، فإنها تؤكد أن التضامن ما زال قيمةً بعيد المنال. توقعت فرنسا أن ينزاح الضمير الجمعي لبعض هذه الممارسات، فبادر الرئيس ماكرون إلى مصادرة الكمّامات، وتحريم المتاجرة فيها، وجعلها ملكا وطنيا لا تجوز المتاجرة فيه، في استباق ذكي لا يخلو من استثمار سياسي، خصوصا أن أثرياء الحروب والأوبئة يتوثبون للانقضاض على هذه المحنة، وتحويلها إلى فرصة للثراء والتربح من آلام الآخرين.. . وما زالت مجتمعاتنا العربية تتعثر في إبداء ما يكفي من تضامن بينها، باستثناء إغلاق الأجواء والحدود بينها.
لا ندري، قد تطول المحنة، خصوصا أن العلماء لا يتوقعون اكتشاف علاج فعال لهذا الوباء قبل
نهاية السنة، وهي توقعات متفائلة جدا بالنظر إلى تعقد "سلوك" هذا الفيروس. ولكن المؤكد أن اكتشافه سيشكل فرصةً مرة أخرى، لإثبات رغبة البشر في إنقاذ جنسهم البشري.. طبعا لن يسلم هذا الاكتشاف من استثمار تجاري وسياسي، وقد ثبت أن أنبل الاكتشافات الكبرى التي قضت على أخطر الأوبئة تحولت، فيما بعد، إلى أدويةٍ تروجها كبرى الشركات التجارية. سيكون وباء كورونا اختبارا عسيرا لقدرة المجتمعات على إبداء تضامنها الداخلي، وتأكيد البشرية مشاعر وحدتها الإنسانية.
سيمر كورونا كغيره من الأوبئة التي عرفتها البشرية في تاريخها الحديث. ولكن ستظل صور العديد من ضحاياه المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وما كشفته من حالات ضعف بشري، على الرغم من كل ما تبديه البشرية من مقاومته شاهدا على معضلة خفّة الكائن البشري التي لا تحتمل، على حد عبارة الروائي الفرنسي (من أصول تشيكية) ميلان كونديرا.. الحياة جميلة يا صاحبي، يجيبه الروائي التركي، ناظم حكمت، على الرغم من توجعه من غدر داء الكلب.