الاتحاد العام التونسي للشغل : أزمة داخلية أم أزمة هوية ومكانة؟

في رسالة جريئة وغير معهودة نشرها ( دون تاريخ ) منذ أيام قليلة ، عمد القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل ، عضو المكتب التنفيذي ، أنور بن قدور الى استعراض ملامح ما رآه أزمة خانقة يمر بها الاتحاد حيث يذكر منذ الأسطر الأولى : « أن الاتحاد يعيش أزمة غير مسبوقة من الارتباك و عدم الوضوح …وأن الحد الأدنى من العمل المشترك بين أعضاء المكتب التنفيذي لم يعد متوفرا » وغني عن التذكير أن السيد بن قدور هو نجل أحد القيادات البارزة للاتحاد العام التونسي للشغل وهو حسين بن قدور أصيل قفصة (و منطقة الحوض المنجمي ) ووجه بارز للخط العاشوري مع توجه عروبي لن ينكره وهو الذي تخرج من الزيتونة وناصر الخط اليوسفي في بدايات الصراع الداخلي بين الزعيمين بورقيبة وصالح بن يوسف ، وهو الخط الذي هيمن على مفاصل الاتحاد خلال ما يناهز ثلاثة عقود وحري بالتذكير أيضا أن بن قدور الأب سجن مع الحبيب عاشور سنة 1978 على اثر الأحداث الدامية التي عرفت بالخميس الأسود والتي راح ضحيتها مئات النقابيين و العمال.

يعدّ أنور بن قدور الجامعي المختص في العلوم الهندسية والأمين المساعد المكلف بالدراسات والتوثيق من أحد الممثلين القلائل للجامعيين الذين لا وزن لهم تاريخيا داخل هياكل التسيير الوطنية ( مكتب تنفيذي: هيئة إدارية) لاعتبارات عديدة أههما أن قطاع التعليم العالي لم يكن دوما ممثلا في المكتب التنفيذي باعتباره قطاعا لا وزن له ديموغرافيا فنوابه اثناء المؤتمرات التي تصعد الهياكل العليا للاتحاد قليلون جدا نظرا للعد المحدود للجامعيين ( عدد النيابات لكل قطاع يخضع الى قاعدة التمثيل النسبي) مقارنة بقطاعات أخرى على غرار قطاع النقل أو البريد أو الصحة أو التعليم الثانوي وخاصة التعليم الابتدائي أكبر كتلة تقريبا الخ… فهذه القطاعات التي تحدد تركيبة جل الهياكل القيادية للاتحاد و تتحكم في توجهاته الكبرى الاجتماعية و السياسية هي ذات القطاعات التي يستعملها الاتحاد مخالب يغرسها في لحم خصومه متى شاء. ولا شك اننا بإزاء أزمة غير مسبوقة لاعتبارات عديدة ذكر السيد بن قدور البعض منها و أغفل بعضها لاعتبارات عديدة سنأتي على ذكرها.

الصراعات الخارجية وطمس الأزمة الداخلية

على خلاف ما ذكره السيد بن قدور فان الأزمة في الاتحاد هيكلية وهي ليست طارئة ولا عارضة بل تكاد تكون مزمنة غير أنها ظلت تنخر الاتحاد في صمت. وقد احتواها أحيانا ضمن استراتيجيات الالتفاف و الاقصاء وأتاح أحيانا أخرى لمناوئيه من منتسبيه التعبير عنها عبر مختلف أشكال الاحتجاج التي توصلت الى خلق « أطر » ضغط نقابي ضمن مجموعات عمل و تنسيقيات وكتل كانت تحرص على التصدي لمختلف «أشكال الانحراف و الانسداد الحاصل » غير أن العشرية الفارطة قد طمست الى حد كبير هذه الأزمة الهيكلية أو ربما أجلتها و دفعت بالاتحاد الى تناسيها وهو الذي انخرط في الثورة حد النخاع حتى أنه يقدم انفسه سواء لخصومه أو مناوئية على انه صانع الثورة و أن مليونية صفاقس كانت هديته لها .

تمكن الاتحاد خلال عشرية الانتقال الديمقراطي من المشاركة في الحكم من خلال وزراء كانوا أعضاء سابقين في مكتبه التنفيذي أو مختلف هياكله الأخرى و مرر بهم جل مطالبه الاجتماعية ومع ذلك وزع بعناية أدواره : يد تحكم مع الحاكمين و بد أخرى تلوى عنق الحكومات متى أغضبته أو اغضبت بالأحرى شركاءه السياسيين غير المعلنين ( الجبهة الشعبية) بل أصبح البعض من أعضاء مكتبه التنفيذي يتباهون بإعلان انتماءاتهم الحزبية .

ولا شك أن الصراعات التي خاضها الاتحاد تحت «لافتة حماية الثورة و أهدافها » الى حد الوصاية عليها قد اوقعته في خصومات خارجية مع أحزاب ، سلطة الخ وهي صراعات «حرّمت أخلاقيا » على النقابيين أي صراع داخلي اذ نفت عنه أي مشروعية أخلاقية . فالجبهات الخارجية التي فتحها الاتحاد أو فتحها مناوؤوه ضده قد أبطلت حجية الانشغال بصراعات الجبهة الداخلية . ثم انه استطاع نسبيا اسكات المعارضين ضمن مكاسب حققها لمنخرطيه فضلا عن تحوله الى الرقم الأصعب في مسار الانتقال وهو الذي تفرد بحق الفبيتو السياسي ضد أي شاردة وواردة ضمن الشأن الوطني ، الذي يحلو للاتحاد الـاكيد عليه ، من : تعيين صغار المسؤولين الى الدستور و العلاقات الخارجية . هذه السلطة الفائضة و هذا الجبروت اخرسا كل محاولات النقد الداخلي . لقد تحول الاتحاد الى ما يشبه « نقابة حزب » كبرى بالمعنى الشمولي . لقد حكم الاتحاد دون سلطة و دون حكومة و تلك هي المعضلة السياسية و النقابية و الأخلاقية . فحين يهتف أنصار الاتحاد «الاتحاد اقوى قوة في البلاد » في كل تجمعاتهم و مظاهراتهم فانهم يرددون بشكل واع وانتصاري تلك الثقافة و الممارسة السياسية النقابية التي طبعت السلوك النقابي و السياسي للاتحاد. فالتوسع في الجغرافيا السياسية الجديدة للانتقال الديموقراطي ، و ضمه لمقاطعات جديدة عنوة واستيلاء ألهيا الاتحاد عن جيوب مقاومة خلفية مستثمرة إرثا ضخما من الأخطاء الداخلية التي راكمتها القيادة أو ما سمي بالمركزية النقابية ، او خصيمتهم «البيرقوراطية النقابية « .

اضطر الاتحاد خلال العشرية الفارطة وهو الذي توسع وضم تلك المقاطعات و الأقاليم الجديدة ( التعيينات ، التشاور حول الحكومات ، الوساطة و التفاوض مع جهات الاحتجاج السياسي على غرار الحوض المنجمي و الكامور و الشباب العاطل …، ومهام الحوار الوطني، والتضامن مع الضحايا…) الى الارتهان أكثر من أي وقت مضى الى القطاعات التقليدية والأحزاب المتنفذة في هياكله حين أجبر من حين الى آخر على خوص صراعات أحيانا مع السلطة الحاكمة أو ذهب اليها طوعا و عن دراية مسبقة نتيجة توظيفات سياسية للتيارات المهيمنة على مكتبه التنفيذي وهيئته الإدارية.

أكثر من مجرد انحراف للممارسة النقابية

عموما كانت مواقف الاتحاد من عشرية الانتقال الديموقراطي منخرطة ضمن هذه الاستراتيجية . ولا شك أن الاتحاد استغل خطأ الهجوم على مقراته (04ديسمبر 2012 )و ذهب به بعيدا حد التنكيل بالحاكمين وبالتجربة برمتها لكي يخوض صراعا مميتا مع النهضة تحديدا. ولم يعد خافيا الآن أن تيارات يسارية وقومية راديكالية متحالفة تحكمت في مواقف الاتحاد . لقد كان شريكا في جل التحركات التي استهدفت حكام المرحلة . ولم يشفع له حصوله على جائزة نوبل للسلام ( 2014 )كي يعتدل في مواقفه و يلعب دوره الوطني بحياد واستقلالية بل لقد كان من حين الى آخر ذراعا لبعض هذه التيارات السياسية وشكل معها «شبكات سياسية مدنية » ( مبادرات ، تحالفات ) خاضت صراعات سياسية ليس لها أي علاقة بالدور الاجتماعي النقابي التقليدي. لم يكن ذلك مجرد «انحراف ممارسة » حدثت سهوا أو خطأ أو مجرد اجتهاد بل كان ذلك يجري ضمن تنظيرات سياسة و ايديولوجية تجعل من النضال الوطني ( والمقصود بها السياسي) الأولوية المطلقة على حساب النضال الاجتماعي ( المطلبي). لم يجد الاتحاد عسرا في تبرير هذا المنحى الشرس والعبثي من حين الى آخر خصوصا وأن الكثير من الأدبيات التي راكمتها التيارات السياسية الراديكالية التي تغللت في مفاصله و شكلت ثقافته السياسية خلال العقدين الأخيرين من خلال آليات التكوين النقابي تحولت الى عقيدة ودوغما . وتحسن هذه التيارات إعادة ترتيب الأولويات و اسناد ذلك بمتن ايديولوجي غاية في الترتيب.

لا شك أن هذه التيارات التي برز ضعفها السياسي من خلال جل انتخابات عشرية الانتقال الديمقراطي ( انتخابات 2011 ، 2014 ..) فقد عمدت بسرعة الى التكيف مع المرحلة و مقتضياتها حيث استطاعت أن تجعل من المجتمع المدني و تحديدا من جمعياته و من الاتحاد رمح صراعاتها المضنية .

العجز عن تجديد الوظيفة

لقد تورط الاتحاد في هذه الصراعات وغذى ثقافتين فرعيتين سيشكلان خلفية وسلوكيات منخرطيه حاليا : ثقافة التحزب التي ظلت ثانوية لدى طيف واسع من مناضليه ثم تحولت الى بوصلة في قراءة الأحداث و اتخاد المواقف والقرارات ، اما الثقافة الفرعية الثانية فهي الثقافة القطاعوية . هكذا عجز الاتحاد عن ابتكار تنظيم جديد يقطع مع هيمنة القطاعات الوازنة وسطوتها . لقد تدحرجت ثقافة الاتحاد الى ثقافة عمالوية une culture syndicale ouvriériste خصوصا بعد توسعه لضم إقليم الوظيفة العمومية ( ثقافة الشهارة و مال البيليك …) علاوة على البلطرة التي اصابت الطبقات الوسطى سابقا من منخرطيه( مداخيل ووعيا) أي رجال التعليم العالي والمهندسين والاطباء . الخ … ولقد عبرت مواقف المركزية النقابية من إضرابات التعليم او الصحة مثلا عن عجز اللامركزية النقابية في التصرف تجاه النزعات الانفصالية والتمردية لدويلات القطاعات تلك ( التعليم ، الصحة ، النقل ، البريد الخ) ولم يعد الانضباط النقابي بمحتواه الأخلاقي و التنظيمي كافيا لحل المعضلات المتفاقمة بعد 2011. وبالنتيجة لم ينج الاتحاد من انفلات عام ساهم في تغذيته .

واصل الاتحاد ثقافته الاحتجاجية القديمة التي استمرت منذ بورقيبة وهو الذي اتقنها وأذل بها من شاء من خلال شن سلسلة من الإضرابات غير المسبوقة في أكثر القطاعات حيوية : الفسفاط ، الصحة ، التعليم الخ وهي اضرابات أحصاها مكتب منظمة العمل الدولية و رآها قياسية ،

لم يجدد الاتحاد رؤيته لوظيفته ومكانته علاوة على معنى العمل النقابي و الاشكال و الأساليب المناسبة في هذه المرحلة و الحال أنه يعيش بل و يصوغ مرحلة انتقالية لها مفرداتها و مقتضياتها. بل كان الاتحاد مزهوا وهو يسمع أهازيج مناصريه و تلعثم خصومه و مناوئيه ( خيمة البلاد هي الاتحاد ، لمصر جيش ولتونس اتحاد ، جائزة نوبل ، الحصن الذي حمى البلاد من الحرب الألية الخ ..) والأكيد أن هذا المديح الذي أغدقه الدارسون و الاعلاميون قد أصاب حواسه بالتصلب ولم يلتقط مختلف الرسائل التي كانت صامتة و لكنها بليغة . حتى انهار ت تجربة الانتقال برمتها لاحقا وكان الاتحاد أول من صفق لذلك في شكيزوفرينا محيرة تثبت كل ذلك التلفيق الذي عاشه الاتحاد.

انتهازية ايتيقية

اكل الاتحاد من وليمة الثورة و . لا شك أن جل أعضاء مكتبه التنفيذي كانوا على مهجة الرئيس قيس سعيد و لكن كانت حساباتهم ضيقة فالرئيس قيس سعيد لا يرغب في أن يكون له شريك في مشروعه .ورغم ان المنظمة الشغيلة توسلت اليه مرات عديدة داعية إياه الى الحوار غير أنه لم يقبل ذاك فالرئيس لا يؤمن في عقيدته « بالأجسام الوسطى » التي يعتبرها حاجزا لا مبرر له بينه و بين شعبه أو بين المواطنين و الدولة فضلا عن تحفظات أخرى قد يكون صاغها الرئيس حول آداء الاتحاد وأساليب ادارته .

بعد ما يناهز أربع سنوات ومنذ 25 جويلية 2021أصبح الاتحاد شبحا ، لم يعد قادرا حتى على الكلام او على الحد الأدنى من النضال الاجتماعي و قد كان الأمين العام يصول و يجول في الساحات و بلاتوهات الاعلام شاتما الحكومات والحكام مستهزأ منهم متحرشا بهم مستعرضا عضلات المنظمة الشغيلة في شي من الفتوة التي لم تخل من البلطجة ( إضرابات قطاع الصحة ، حجز نتائج التلاميذ ، التهديد بسنة بيضاء دراسية مرات عديدة، الفيتو على تعينات الحكومة والوزراء أو مسؤولين في مناصب إدارية أو حتى مشاريع قوانين الخ ).

رسالة أشبه بمنشور داخلي مسرب

تغفل الرسالة العديد من المسائل حتى أنها تكاد تكون رسالة داخلية » مسربة » لفرط احجامها عن الاقتراب من « العتبات الممنوعة » والحال ان المسألة تعني الرأي العام الواسع . يغفل السيد بن قدور صورة الاتحاد لدى الرأي العام ولا ندري ان كانت هذه الصورة ومواقف عموما الناس منها مجال دراسة المكتب الذي يشرف عليه وهو «الدراسات و التوثيق » . غير أن العديد من المؤشرات الكمية و الكيفية تذهب في اتجاه تبرم فئات واسعة من غير النقابيين خاصة و استيائهم العميق . فهم يحملونه جزءا كبيرا من مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية : تعطيل الإنتاج والمكاسب التي حققها للشغالين على حساب فائت أخرى : كالعاطلين عن العمل، و ارباب العمل الذين تسلط سيف الإضرابات على رقابهم الخ …

جسم هلامي يهذي بأمجاده

رسالة السيد بن قدور الأخيرة ، عضو المكتب التنفيذي و الجامعي جاءت لتؤكد عمق الازمة التي يعاني منها الاتحاد غير أنها ليست كما ذهب اليه مجرد أزمة داخلية ناجمة عن التلاعب بالفصل 20 من القانون الأساسي للاتحاد والذي مدد في أنفاس الأمين العام و اعضاء المكتب التنفيذي الذين قضوا اكثر من عهدتين في المكتب و منحهم حياة إضافية والحال أن الاتحاد أوشك على اعلان احتضاره وموته السريري غير المعلن وهي أيضا ليست مجرد ازمة الديموقراطية الداخلية في اتخاذ القرار . الأزمة أعمق مما وصفه السيد بن قدور و الحلول التي يقترحها ليست سوى إعادة انتاج الأزمة انها حلول موغلة في البيروقراطية التي انتفض عليها الكثير من النقابيين حاليا . ولا مجال لاي اصلاح جدي ما لم يتم التطرق بجدية الى مكانة العمل النقابي في القرن الواحد والعشرين خصوصا في ظل التحولات الديموقراطية الناجحة أو الفاشلة إضافة الى إيتيقا العمل النقابي في زمن التعددية السياسية و انفتاح الفضاء العام . ان لم يحصل ذلك فسيتم طمس المشكل و التحايل عليه مرة أخرى .

لم يعد من الممكن أن يكون الاتحاد طرفا سياسيا في لعبة حددت الديموقراطية قواعدها: أحزاب تتنافس ، انتخابات تبني مشروعية الحكم و المعارضة و نقابات تتفاوض اجتماعيا ضمن ما يتيحه السياق من موازين قوى و إدارة اللعبة التفاوضية الاجتماعية . لقد افضت الشعارات التي رفعها مناضلو الاتحاد في سنوات الديموقراطية والحرية التي لعنوها وهم مزهوون : » الاتحاد أكبر قوة في البلاد» .. الى الحالة التي هو عليها الان : ضعف و هوان شديدان حولاه الى جسم هلامي كبير يهذي بأمجاده وهو المشرف على هاوية لا ندري ما قرارها.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات