بعد سنة وربع السنة على انقلابه، لا يزال الرئيس التونسي، قيس سعيّد يتمتّع بسلطات واسعة، لا ينازعه فيها أحد. لقد تمكّن، وبكلّ يسر، من نسف ما بني في مرحلة الانتقال الديمقراطي: الدستور والهيئات المستقلة التي أغلق أبوابها وأصدر تشريعات قمعية عديدة، فضلاً عن الحد من حرية الأحزاب والمجتمع المدني. ما زال التونسيون يتساءلون: كيف حدث ذلك ومن دون مقاومة ذات دلالة؟ عادت ثقافة الخوف ولاذ عديدون بالصمت أو الانطواء. إنّه باقٍ ويتمدّد، وسط ذهول بعضهم وإحباط آخرين. لم يقتصر فتكه بالسياسة، بل تجاوز هذا العبث، ليشمل قوت الناس ومعاشهم ومستقبل أبنائهم.
ارتفاعٌ كبير في أسعار المواد الغذائية، فقدان بعضها، الحليب والبيض والزيت مثلاً. وتتوقع المصادر الحكومية أن يزداد الحال سوءاً باختفاء تدريجي قريباً للأدوية الحيوية وغيرها. ما يقارب نصف مليون تلميذ (ربع التلاميذ عموماً) لم يباشروا دروسهم بعد، بسبب إضراب المعلمين غير المترسّمين. مع ذلك، يجتمع رئيس الجمهورية بوزير التربية والتعليم ليقرّعه على التهاون، والرجل عاجزٌ عن رد التهمة عنه، في حين أنّ المالية العمومية عاجزة عن توظيف ما يكفي لسدّ هذه الحاجات. يخرج رئيس الجمهورية في كلّ أزمة "بطلاً وطنياً" حريصاً على حقوق شعبه، مدافعاً عنه ضد كلّ المتآمرين الذي احترفوا "تجويع الشعب والتنكيل به" على حدّ قوله في قاموسٍ أصبح الجميع يحفظونه، ويعيده بعضهم، من باب التندّر، في مناخ من التجهّم والإحباط. ومع كلّ هذه الحيرة، لا توجد أحاج أو طلاسم وألغاز لتفسير كلّ هذا العجز عن مواجهة الخطر الجاثم على البلد الذي "أبهر العالم والذي ظل استثناء".
ثلاثة مخيّمات تناهض سعيّد تدرّجت في تشكّلها، واختلفت في مساراتها: حركة النهضة ومن حالفها أي جبهة الخلاص الوطني، ثم خماسية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية التي جمعت كلّاً من أحزاب التيار الديمقراطي والتكتل من أجل العمل والحريات وحزب العمّال والقطب الحداثي، وأخيراً جبهة الحزب الحرّ الدستوري الذي تتزعمه المحامية عبير موسي التي تقدّم نفسها وريثة التجمّع الدستوري الديمقراطي الذي حكم البلاد خلال فترة بن علي.
على الجهة الأخرى المقابلة من هذه المخيمات الثلاثة، المشتّتة والمتنافرة، يلتف طيفٌ واسعٌ من العناوين والمحلات والدكاكين إلى حد الفوضى حول الرئيس سعيّد، وكلٌّ يدّعي أنّه الأقرب إلى قلبه والأكثر وفاء لأطروحاته، أحزاب جديدة نشأت في مناخات الانقلاب: حراك 25 جويلية (يوليو/ تموز)، الشعب يريد... إلخ، علاوة على أحزابٍ قديمة: حزب تونس إلى الأمام، حركة الشعب والتيار الشعبي، فضلا عن شخصيات اعتبارية، على غرار عميد المحامين الأسبق، إبراهيم بودربالة، وبعض الفنانين... اجتمع هؤلاء، أخيراً، لتشكيل عنوان فضفاض من خلال بيان مبادرة "لينتصر الشعب" وهي في الحقيقة تنتصر للرئيس أكثر من انتصارها لشعبٍ كوته آلام المهاجرين الغرقى ومئات الفواجع الأخرى.
سيعجز الخبراء عن تقييم حجم هؤلاء، خصوصاً أنّ القانون الانتخابي أقصى الأحزاب نهائياً من التنافس، حين أقر مبدأ الانتخاب على الأفراد، وكانت هيئة الانتخابات أكثر قسوة من القانون ذاته، حين ذهبت، في تأويل متشدّد له. ولا تهتم هذه المقالة بتحديد الوزن الحقيقي لهذه القوى وحجمها الكمّي، فلم يعد هذا المؤشّر صادقاً لتعييرها، بل ما يهمنا إخفاقها الجماعي في كبح القطار الشعبوي الزاحف الذي يهدّد مكاسب الحد الأدنى من العقلانية السياسية.
العداء الذي تكنّه المخيّمات الثلاثة بعضها لبعض، وهي التي تناهض قيس سعيّد هو ما يمنحه كلّ هذه الراحة، ليذهب بعيداً، حتى يصل إلى مناطق قصيّة لم يتوقعها أحد. كلّ الجبهات هادئة إلى حد الخدر. من كان يعتقد أن يعمد الرئيس إلى إغلاق أبواب الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أكثر من سنة ونصف السنة تقريباً، ويحيل آلاف المواطنين على بطالة قسرية؟ من كان يتصوّر أن يُلغى الدستور بجرّة قلم؟ هل كان أحدٌ ما يتوقع أن تُلغى الأحزاب من قانون انتخابي لبلدٍ شهد الأحزاب منذ أكثر من قرن؟
كيف يمكن أن تضع هذه المخيمات حدّا لهذا التدهور العبثي في المشهد السياسي الذي لم يعد لائقاً بنخبٍ سياسيةٍ ساهمت، كلٌّ من موقعها، في بناء تجربة العشرية المنصرمة بكلّ نجاحاتها وإخفاقاتها.
لا مساعي حقيقية حالياً لتقريب وجهات النظر أو إزالة تلك الجدران السميكة من الجفاء والكراهية التي وصلت إلى حدٍّ لا يطاق بين فرقاء النضال ضد الاستبداد الذين فرّقتهم العشرية المنصرمة، وأقامت بينهم أخاديد عميقة من الشك وسوء الظن. يقول بعضهم داخل هذا المخيم أو ذاك: لو فُتحت لنا الجنة، ووجدنا حركة النهضة بيننا لغادرناها. ويقول آخرون سرّاً: لو أسرع سعيّد في الإجهاز على هذا الطرف بعينه لأيدناه آنذاك. يقول المخيم الآخر: ها إنّ سعيّد يصنع حنيناً لنا من خلال إهانة الجميع ووضعهم في أحجامهم... الكلّ يأكل ألسنته ويقضم أصابعه سرّاً وعلانية على أندلس غادروها، بما فعل ملوك طوائفهم فيها، لكنّهم غير مستعدّين مطلقاً، حتى لاجتماع في فضاء واحد من أجل طرح السؤال: ما العمل؟
على الجميع التأكّد أنّ الشعبوية باقية وتتمدّد، وأنّ انحسارها رهينٌ بالتقارب الموضوعي، وجعل استعادة الديمقراطية الأولوية المطلقة. ضعف المعارضة هو الذي يطيل الاستبداد. ثمّة جسورٌ خشبية، فضّية، ذهبية، لا بدّ أن تمد بين مختلف الفرقاء. وهذا يقتضي خريطة طريق واضحة، من دون اشتراطات جوهرانية مسبقة. التجسير هو الخطوة الأولى في استعادة الديمقراطية المغدورة.