قطعت الصمت الذي خيّم على مجلسنا بعد هذا العرض للتراجيديا التونسية لسنة 1987، وسألت صاحبي عن الرّعب كوسيلة للتحكّم، فأجاب:
"الرُعب، يا صديقي، سلاح خطير جدًا. إنَه من أسلحة الدَمار الشَامل. ولذلك فإنَ كلَ ديكتاتوريَات العالم امتلكته واستعملته على نطاق واسع، محدثة أضرارا جسيمة، لا يمكن رؤية معظمها بالعين المجرَّدَة. فسلاح الرُعب، يدكُ البنية النفسيَة للفرد - وكذلك للمجموعة - دكًّا. لا يترك في هذا البنيان جدارا قائما. يهتزُّ لرجَّاته الوعي واللاَّوعي. تتمنّى لو كنت نسيًا منسيًّا.. تتمنَى لو لم تكن تعرف شيئا.. تتمنَى لو لم تك شيئا.. تتمنَى اضمحلال الماضي.. وكذلك الحاضر.. وينتفض كيانك، رعبا لذكر المستقبل.. في كلمة، تتمنَى الموت.. تحلم بزلزال قيامي، يهزُّ الأرض فلا ينجو أحد.. ولا تنجو أنت.. لكي لا ينجو الطَاغية.
ولسلاح الرُّعب هذا مفعولا انشطاريا، كالقنابل العنقوديَة حين تنفجر فتطال حبَاتها الذكيَة مجموعات من النَاس. وإحدى راجمات صواريخ الرعب الأكثر خطورة ومردوديّة: الإشاعة؛ فهي التي تضمن فاعليَة قصوى لهذا السِلاح.
ولكن، لهذا السِلاح الفتَاك، على قوَته، مواطن ضعف. فما أن يجد في مواجهته سلاح رعب مضادٍ، حتَى يفتر مفعوله، ليتلاشى شيئا فشيئا. وهذان في الحقيقة، قانون من قوانين الطبيعة والبيولوجيا: فعندما تهاجم الميكروبات والفيروسات جسم الإنسان، تكون ردَة الفعل الطبيعية –والحتميَة- أن يحرِّك هذا الأخير مضاداته الحيويَة. وهذا ما حدث تحت ديكتاتوريَات عديدة ولم يحدث في تونس؛ وهذا ما يفسِّر إلى حدٍّ كبير سرعة الانهيار، بالرُغم من التَواضع النِسبي لديكتاتوريَة الياسمين، فبن علي ليس بشاه إيران، و لا ببينوشيه، ولا حتَى بسوموزا.. ومع ذلك فقد انهارت المقاومة.. بل لم توجد مقاومة أصلا.
ولا لوم البتَة على من لم يصمد أمام هذا السِّلاح المدمِّر، الرُعب، إذِ الإنسان ضعيف بطبعه "وَخُلقَ الإِنسانُ ضعيفًا". لا سيَما إذا وُوجِه به كفرد، لا عُصبة له. ومقاييس الضعف والقوَة هنا، لا تكمن في البنية الجسديَة ولا الفكريَة ولا حتَى في السِّنِ أو الجنس؛ إذ أنَ الهدف الأوَل والأخير لسلاح الرعب، كما ذكرت لك، هو تدمير البنية الذهنية للإنسان، إلى درجة فصله عن ذاته وعن محيطه، إلى حدِّ العداء السكيزوفريني.
***
"التَعذيب هو أعلى درجات سلاح الرُعب. يسهر عليه موظَفون رسميُون.. هم في نهاية الأمر مواطنون عاديين، يعيشون بين النَاس. تربَوا تقريبا كضحاياهم، درسوا في نفس المدارس، ومشوا في نفس الأزقَة والشَوارع.. بعبارة أخرى، هم ليسوا من كوكب آخر.. ليسوا من سكَان المرِيخ.
تساؤلات تطرح نفسها بإلحاح ولا تستدعي جوابا متسرِعا. ترى كيف تحوَل هؤلاء الموظفون إلى غيلان مفترسة؟ أيُ "ميكانيزمات" جعلت منهم آلاتا وحشيَة قاتلة.. تتلذَذ بالقتل البطيء والبشع لأبناء وبنات جلدتهم، الذين لم يسيئوا إليهم شخصيَا أدنى إساءة قد تستفزُ غرائزهم الأكثر وحشيَة؟ هل يدفعهم إلى ذلك حبُهم المفرط لوظيفتهم، جريهم وراء التَرقيات، شعورهم الوطني؟
تراهم يعملون، خلال حملات الاعتقال، بنسق "صناعي"، ويعودون إلى بيوتهم مساءا، ليلقوا أهليهم، فهذا في مطعم "شيك" مع صديقته، يتجاذبان أطراف الحديث، ويرسمان معالم مستقبل زوجي مشرق، في جوِ رومانسي، تشهد عليهما فيه، شمعة باهتة ووردة حمراء.. وهذا يلاعب طفله على فخذيه، منشدا له أعذب الأغاني، حتَى ينام.. وآخر يحتسي فنجان قهوة، ويدخّن نرجيلة، وسط أبناء حارته في مقهى الحي؛ تراه منهمكا في حسابات معقَدة " لطُرحْ رامي"، أو منفعلا في غمرة النِقاشات اللاَمتناهية حول مبارات "الإفريقي" و "النَجم" هذا الأحد.. وربَما كان أحدهم لا يضيع صلاة العشاء جماعة..
ولكن وفي اليوم الموالي، سرعان ما ينقلب المشهد، ليصبح هؤلاء أشياء أخرى. كأسطورة الرجل الذئب، الذي يتغيَر لا شعوريَا، مع بزوغ القمر، من إنسان إلى كائن ذئبي لا يشفي غليله غير الدم الآدمي.
في قلب المدينة، وعلى مرمى حجر من المارَة والسيَارات والأسواق، تخفي أسوار "مؤسسة الحزن" أو "وزارة الحُبّ" .. جحيما تتصاعد عبر مداخنه صرخات الألم ورائحة الدَم وأصوات وسياط "آخر المتبقين من العصر الحجري" .. اقتلاع للأظافر، حرق بالسجائر، غمس للرأس في ماء مزاجه من قيء وبول ورحيق البالوعات، ضرب شديد على مناطق الجسد الحساسة، إدخال قضبان من حديد في الأدبار، تعليق لساعات عديدة لا تتوقف إلاَ بالإغماء، ثقب العضلات بثاقبة كهربائية صُمّمت وصنّعت في ألمانيا للخشب وللإسمنت المقوّى، اغتصاب الرجال والنِساء، خلع الملابس في كل الأحوال، الشتم والإهانة في كل الأحوال.. هذا قطر من غيث؛ ولا يحس بالجمر إلاَ الماشي عليه.
و يروى أنَ أحد القائمين بإحسان، على التعذيب خلال الثمانينات، كان يلقَب من قبل زملائه بالحاج؛ وكان ينظر إلى ساعته أثناء جلسة من جلسات تعذيب الإسلاميين، ويستأذن زملاءه المنهمكين في "الشغل"، للذهاب لأداء صلاة العصر أو المغرب..
لا أجد لتساؤلاتي السابقة من أجوبة مقنعة وجدِية، جواب واحد يفرض نفسه: إنَه انعدام الرعب المضاد.. إنَ فقدان المناعة يشجع الداء على الانتشار، هذا أمر معلوم من الطب بالضرورة.. وكذلك من الدين بالضرورة.
فلأنَ هذا الموظف يعود إلى بيته، بعد الانتهاء من عمله هذا آمنا، ويلقى الآخر خليلته في المطعم الرومانسي وهو آمن، ويداعب الثالث طفله وزوجته وهو آمن، ويشرب الرابع الشيشة ويلعب الورق في المقهى وهو آمن.. في ظل استتباب الأمن هذا، يتمادى الكل في ما يعملون، وينزلق الكل شيئا فشيئا ولا شعوريا، نحو اعتبار ما يقومون به، وظيفة كغيرها من الوظائف العادية، والتي ليس فيها ما يدعو إلى الخجل أو إلى تأنيب الضمير..
قاطعت صاحبي قائلا:
- كلامك هذا في غاية من الخطر! ألا يُستشفّ منه بعض المقولات الإرهابيّة؟
- رجاءا لا تقاطعني، فتُصدر ضدّي أحكاما مسبقة وغير دقيقة. أكاد أجزم بأننا نحن الذين جعلنا من هذا الإنسان وحشا مفترسا بدون ضمير.. آلة قاتلة بدون روح.. هل نحن هم ضحاياه؟ لا! بل هو الضحية. فحينما أستعمل سلاح الرعب هذا، لم يجد أمامه من رعب رادع، يحدّه ويثنيه عن المواصلة في هذا المنزلق. فأنزلق إلى اللانهاية..
رصاصة واحدة بين عيني"الحاج" مثلا، كانت لوحدها كافية لإيقاظ ضمير ذلك المتمسِّك بخطيبته، وذلك المتعلق بطفله، وذلك الذي لا يرغب في أن يمر يوم واحد بدون أن يلتقي شلَة المقهى، وغيرهم كثير ممن يحبوُن الحياة لا أكثر.
رصاصة واحدة كانت ستمنع أحدهم من اغتصاب فتاة عفيفة، وتمنع آخرمن إدخال قضيب حديدي في دبر شاب طاهر.
رصاصة واحدة كانت قد تنقذ المئات والآلاف من أبناء جيل مرُوا بدهاليز مؤسسة الحزن، ذات يوم، فخرجوا منها مهدومي الذَّات؛ وصارت آدميتهم، بعد هذا المرور "العابر" خاوية على عروشها.. ألم يصبح ذلك الشاب المتديّن، سكَيرا معربدا؟ ألم تصبح تلك العفيفة المحجَبة مومسا؟ ألم يغدو ذلك الرجل المتزوج، الوَرِع، الملتحي زان؟
أيُ دمار هذا؟"
(يتبع)