نحتفل هذه الأيام بمرور خمسة أعوام بالتمام وبالكمال على اندلاع الثورة التونسيّة.. ثورة أبهرت في حينها العالم، ولكن سرعان ما ذوى بريقها وخبى وهجها.. وصارت في قفص الاتهام.. والتهمة "انتحال صفة".. لن أطيل في ذكر ما هو معلوم من التاريخ ومن السياسة بالضرورة.. فالثورة المضادّة في الداخل وأعداؤها في الخارج قاموا بدورهم الطبيعي.. ولو لم يفعلوا ذلك لعجبنا لهم..
ما يعنيني هنا هو الدور الذي لعبه المنتسبون للثورة والمتحدّثون باسمها والمدافعون عنها، وأخصّ بالذكر منهم من انبروا للعمل السياسي وانتظموا داخل ما يطلق عليه "أحزابا سياسيّة".. ما فتئت تتشكّل وتتفرّع وتترسكل وتغيّر أسمائها وألوانها، ولكن دوما في نفس الدائرة والحيّز.. مثلها كمثل لعبة الورق.. أخلط الأوراق ما شئت من المرّات فلن يتغيّر عددها.. المهمّ أن تحوز على "الجوكر".. و"الجوكر" في لعبة السياسة التونسيّة هو "محسن مرزوق" (لا الشخص وإنما النموذج).. إبحثوا عنه تجدونه في كلّ الأحزاب بدون استثناء..
ومن خصائص لعبة السياسة التونسية، "السياحة الحزبية".. وقد باتت الرياضة المفضّلة للمتحزّبين، قادة وأتباعا.. وكما للسياحة الترفيهية مسالكها المفضّلة، فإنّ للسياحة الحزبية مسالك باتت معتادة: فترى البعض يترك الحزب حينما يترك هذا الأخير السلطة، وترى البعض الآخر ينتقل من "رتبة" المناضل القاعدي داخل حزب، ليجد نفسه، وبلمح البصر، في هيئة تأسيسية أو مكتب تنفيذي لحزب آخر.. وآخرون "ينتدبون" المناضلين كما تنتدب الشركات متعدّدة الجنسيات موظّفيها.. وآخرون أيضا يشتمون المرزوقي والترويكا ويعتصمون في باردو بالصيف، ليجدوا أنفسهم، بقدرة قادر، قادة مؤسسون في حزب "الإرادة" بالشتاء، في رحلة تسلّق أبديّة.. وغير ذلك من الأساليب المضحكة المبكية.. خلاصة الأمر أنّ الساحة السياسية التونسيّة أصبحت: "سوق ودلاّل".. وفي هذا الخضمّ ترى العجب العجاب من التدافع وما يتبعه من همز ولمز ومناورات وتآمر وضرب تحت الحزام.. والأغرب من كلّ ذلك أنّ هذا الذي يجري، يتمّ تحت اللافتات الكبرى "للقيم والمبادئ والأخلاق"..
اليوم بان للعيان، وبوضوح تامّ أنّ هذه الأحزاب لا تختلف البتّة عن أكشاك الانتصاب الفوضوي التي تكاثرت بعد 14 جانفي... وما الذي سيجعلها مختلفة وهي التي انتظرها الشعب "من فُوق ياخي جاتو من لوطا".. انتظرها كرأس حربة تتسلّق معه القمم، فوجدها تحفر الأرض بحثا عن درجات أعمق من الحضيض..
هذه الأحزاب هي اليوم في حالة موت سريري.. بعضها ذهب إلى حدّ "اختيار" طريقة الانتحار الجماعي! خدمة لبعض الأفراد الذين أعمتهم نرجسيّتهم واستعجالهم على "غنيمة السلطة"، فرأوا أنفسهم قادة الزمان في قادم الأيام.. وزادتهم شيخوخة قائد "النداء" نهما على نهم.. وربّما تولّدت لدى بعض من ذاق طعم السلطة في زمن الغفلة.. زمن الترويكا والمجلس التأسيسي.. "حشيشة" وإدمان.. وصار لا يرغب في نشوة المشاريع الكبرى الجماعية، ويفضّل عليها نكهة الزعيم والحاشية.. حاشية وإن صغرتْ فهي حاشية.. ديدنها: "يمشي الجافل ويجي الغافل"..
لقد اختزلتْ هذه الأحزاب السياسة بمفهومها الأخلاقي الفلسفي في العمل الحزبي الضيق.. وحتى هذا اختُزِل في استراتيجيات الأفراد الخاصة، مما جعل من الظهور التلفزي، والفهلوة، وتنميق الكلام (ضربان اللوغة)، والخبث والكذب (التبلعيط) المقاييس الوحيدة "للزعامة" السياسية.. فكان أن قتلت السياسة وقتلت نفسها.. ولذلك فهي اليوم في وضع من "لا يرحم ولا يخلّي رحمة ربي تنزل"..
une vraie force de blocage
ثمّ إنّ هذه الأحزاب التي تدعو إلى المحاسبة وإلى الديمقراطية واحترام الدستور والشفافية و.. و.. و.. إلى آخره من الشعارات الفضفاضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. هل طبقت في داخلها كل ما تطالب الآخرين بتطبيقه؟ لا أظنّ ذلك، وإلاّ كيف لنا أن نفسّر تشظيها وتشرذمها وكثرة الانقسامات والخصومات فيها (وهي خصومات لا حول الرؤى والمناهج ولكن حول المواقع والنفوذ داخلها)؟ كيف نفسّر عدم اكتراث الشعب بها، بل وامتعاض قطاعات واسعة منه من ممارساتها؟ لقد خلقت هذه الأحزاب خطابا وممارسات جعلاها في ظرف وجيز، بل قياسي، في عزلة تامّة عمّن تتحدّث باسمهم.. بل أنها في عجز تام حتى على إقناع أنصارها وقواعدها على النزول إلى الشارع في قضايا مصيريّة كقضية قانون المصالحة مثلا..
وحتى لا أفهم خطأ، فلست من دعاة "اللجان الشعبية"، و"من تحزّب خان" وغيرها من مقولات الكتاب الأخضر البالية.. ولكن أعتقد بأن الوقت قد حان لظهور أطر سياسية مغايرة تراهن على الشعب وتبني عملها على القيم الكبرى وتدعو إلى السياسات الكبرى.. لا أن تكون مجرّد ماكينات انتخابية، تعمل لصالح فلان وعلاّن.. كما هي الآن..