حدّثنا أبو المقعار، قال:
شغلتني عن أحوال افريقيّةَ بعضُ الشؤونْ، حتّى انقطعتْ عنّي أخبارُها، وغاب عنّي ريحُها وغبارُها، وكما تعلم الخاصّة والعامّة، فأنا بحبّ تلك البلاد مسكونْ، وبعشق شعبها العظيم مجنونْ، وطول البعد عنها يخلّف في النّفس الأحزانَ والشّجونْ. سألتُ من حولي ممّن يكثرون إليها السفرْ، لعليّ أظفر بتوصيف لأحوالها أو حتّى بنُتَفَةِ خبرْ. فقيل لي بأنّ الناس في افريقيّة في شغل وشاغلْ، صانعها زاغلْ1 وحاكمها واغلْ2 وشعبها يتشاغل ونخبتها تتباغلْ3 .
فقلتُ لمحدّثي:
ويحك يا هذا ما قلت خيرا في البلادْ، وأحسب أنّك تحدّثت عن غير افريقية الأمجادْ، أو أنّك رجل ميّال بالسليقة لنهج الانتقادْ... أو لم يأتك خبر حضارة تُؤْنس وما لها عبر التاريخ من امتدادْ؟ فأجابني بنبرة الحزن والحِدادْ:
لقد طوى الدهر زمن علّيسة وقرطاجْ، واندثر ما شيّدته من حصون وأبراجْ، وراح زمن الرومان أدراجْ، وتبعهم أهل بيزنطة في السقوط بدون تردّد ولا اعوجاجْ، وكذا الحال لبني الأغلب والفاطميّين وبني حفصٍ وبني تُركي، اتّبعوهم أفواجا من وراء أفواجْ... وأضاعت افريقيّة صولجانها والتاجْ4 ، وخلَف خلْف هؤلاء حكّامٌ يحبوّن المال حبّا جمّا، ويحكمون شعبهم بالعصا والكُرْباجْ5 ، وهم أمام الرعيّة غيلانا وأمام الفرنجة دجاجْ، حتّى طفح الكيلُ وثار عليهم الشعب وقال لهم قولته الشهيرة:
"ديقاج يا خُمَّاجْ!"
فقاطعت محدّثي كما يفعل أهل الحِجَاجْ، وقلت له:
الحمد لله على منّة الانفراجْ... ها قد عاد الحكمُ للشّعب وفرّ الأهماجْ، وعاد الدُرُّ لمعدَنه وكذلك الصولجان والتّاجْ...
فقاطعني محدّثي قائلا:
على رسلك يا هذا فلقد فرّ بالفعل الرئيسْ، ولكنّه ترك بيننا تجمُّعَ الأباليسْ، وجَمهرُوشَ التلحيسْ، وأئمّةَ التزوير والتدليسْ، وأصحابَ القفاف والدبابيسْ، وأركانَ دولة البوليسْ، وصحافةَ الكذب والتمليسْ، واتحادَ نسوة العُنوسة والتعنيسْ، ورجالَ أعمال التفقير والتفليسْ، وقوما لا تحلو لهم السياسة في غير الكواليسْ... وتواصوا فيما بينهم بالرقود حَلْفاءْ، وبتصنّع البكاءْ، وبالظهور بمظهر التوّابين الصُّلحاءْ... وصرخوا في الناس صرختهم الشهيرة: "غلّطونا فكنّا قوما بلهاءْ"... وركشوا ركشة6 الرُّتَيْلاءْ7 ، في انتظار مرور العواصف وخروج الشتاءْ... ثمّ ظهروا من بعد ذلك كما تظهر الأفعى الرقطاءْ، واجتمعوا في كلّ ساحة وفناءْ8 ، واحضروا قصاع الروز بالفاكياءْ9 ، واستنجدوا بأهل الفنّ وبالشعراءْ، وبنقابات الأمن، وبكلّ من تركهم المخلوع من يتامى ومن لقطاءْ... وطالبوا الحكومة بالاستقالةْ، فقد أصبحت البلاد على قول شاعرهم "كافون10" : "زبلة في بوبالهْ11 "... فما كان من حكومة "التُّرُويْكاءْ" إلاّ الإنصياعْ، فقد ضمّت من السّاسة مناخيب12 القوم، أي من بهم رعشة الخوف وبعض من الغباءْ.
وما ان اعتلى هؤلاء العرشْ، حتى اندلع بينهم الخصام والهرشْ13 ، وتحوّل الدولفين إلى قِرشْ، ووُضِع الشعب على محكّة الجرْشْ14 ، وانتفخت من الحكام الجدد الخدود والكِرشْ، إذْ ارتموا على غنيمتهم تقطيعا ونهشْ، وتعاطوا بكلّ نهم الرّشوة والوَرَشْ15 ، وانقسم اخوة الأمس إلى مائة قبيلة وشقٍّ وعرشْ، فهذا مع مرزوق وذاك مع سلمى والآخر مع حافظ والأخرى مع سفيان أبو كرشْ، واعتلى المنابر كلّ تافه وخَرْشْ16 ... حتّى سمّوا تلك الحقبة بالسنوات الحُرْشْ17 ، كيف لا وقدّ حوّلوا الدينار قرشْ18 ، وقوارب البحر للشباب نعشْ، وتلفازهم والمذياع مَرَشْ19 ، ووحدة الوطن شِرْشْ20 ، وأخلاق الناس ترْشْ21 …
عندها قاطعتُ محدّثي: "ويحك! أوقد سكت عن كلّ هذا، الناسْ؟"
فأجابني: "بلى! فإنّ شعارهم جميعا: لا يردّ هراوة على فاسْ!"
هنا قلت لمحدّثي: ها هي انتخابات جديدة قدْ حلّتْ، ومعها رياح التغيير قد أطلّتْ...
فقاطعني بالسؤال:
أوَ لم تسمع الخبر، فلقد علمتك للتقصّي مبادرْ؟ فقلت له منك أسمع فلقد كثرت الأخبار وأصبحت كالدرادرْ22 ، أو كدقّ البنادر23ْ ... فقاطعني قائلا: أنا آتيك بأخبارٍ وثيقة المصادرْ، فأنا لا أخالط في الأحزاب غير كبار القوم من قادة وكوادر24ْ ، ولا أغفل عمّا يروونه من حديث جدّ كان أو تنادُرْ... فلقد تساءل شيخ التكتيك25 وإمام البوليتيك26 : هل من مبادرْ؟ فقال من حوله بصوت الرجل الواحد: نحن لها كالبركان الهادرْ، فأجابهم ها قد حان موسم الطير المهاجر، فيهم القادم وفيهم المُغادرْ، فأتوني فورا بالعصفور النادرْ... فعمّ في أرجاء البلاد "التزقزيقْ"، وخرج كلّ ذي ريشة ومنقار وكلّ من دأب على الفريسة التحليقْ، ورفرفت في سمائها طيور الشؤم من غربان وبوم وغرانيقْ، سود وبيض وبلاليقْ27 ، ممّن تعشق "الزيوان البلّوشي"28 وترغب في فاخر الطحين والدقيقْ... وكلّما اقترب يوم الصناديقْ، ممّا تقتضيه ديمقراطيّة الإغريقْ، إلاّ واشتدّت الحرب بين الطيور وكثر بينها التّرْشيقْ، واستُعْمِل كلّ سلاح من المناقير إلى المخالب إلى المنجنيقْ29 ، وساد في أحزابها الانقسام والتّشقيقْ…
قاطعت محدّثي قائلا: هلاّ فصّلت لي في أنواع هذه الطيور فقد اشتبه عليّ أمرهَا، وأخشى أنْ أقع في المحظور فأختار يوم الانتخاب أتعسهَا…
فأجابني:
أحدها يدّعي النسب إلى زبيدْ، وصفته أنّه لا يحسن الغناء والتغريدْ، ولا يحمل كالحمام الزاجل البريدْ، وإذا تكلّم فإنّه يكثر من التلعثم والتنهيدْ، وينسى أن يقول ما يريدْ، وهو مسنود من عصابة النار والحديدْ، وأنصاره من الشعب إمّا كارها للثورة أو صاحب ذهن بليد…
وثانيها يدّعي القدوم من النيل، وقد سمّى نفسه لذلك "نبيل"، ونشيده المفضّل "يرحم خليل"، ولقد تعوّد منذ الزمن الغابر على التطبيل والتهليل، وهو يوزّع لكي تحبّه الناس من المقرونة الأطنان، ومن الزيت البراميلْ، ولكنّه اشتهر بينهم بالغشّ وبالتضليل، وبنشر الغباء عبر قناته وكذلك التجهيل، ولذلك اتّبعه من دون الناس أهل الغباء والبهاليلْ…
وثالثها أنثى لها زَقزقةُ سجاح30 ، لا تكلّ من شتم خصومها ولا ترتاحْ، ولها حنين إلى الزمن الغابر تعلنه بواحْ، فقد كان اختصاصها آنذاك في الانبطاح والامتداح، وأتباعها من طينة التجمّع31 القَراح32 ، عجائز وشيوخ كالأشباح، واجتماعاتها كعرس في قاعة أفراح، يحضرها كلّ لحّاس وقفّاف ومن هو في الطحين الفاخر عوّام وسبّاحْ...
ورابعها بومة الشؤم، تلك التي تسمّتْ على اللّؤم، ريش رأسها أصفر فاقع، وتفكيرها أرض بورٍ بَلاَقَعْ33 ، وحداثتها تقف عند حدّ الحرب على اللّحي والبراقعْ، وإذا ما استدرجت في الحديث عن غير هذا فهي لا تجيد كلاما ولا قُعاقعْ34 ، ومن ذلك أنّها سئلت ذات مرّة عن فصل الدستور الأوّل من قِبل أحد البواقعْ35 ، فاتسّع عندها الخرق على الراقعْ، وانكمشت عصفورتنا الشقراء انكماش القواقعْ36 ، وقالت لقدْ حدّثنا عنه سيّدنا شيخ المصاقعْ37 ، وإن شئتم فعودوا إلى الفايس بوك أو إلى غيره من المواقعْ…
وخامسها هُدْهُدٌ اسمه المهدي ولقبه ابن تَوْتَالْ، كان فيما مضى وزيرا قبل أن يُقالْ، وفي عهده كثر عن الشفط وعن النفط السؤال، فكانت العامّة تصيح في الشوارع: "وينو البترول... وينو الملح... ويني الأموالْ"، بل وصل بهم الأمر إلى التساؤل عن السيادة وعن الاستقلال، فكان جوابه بأنّ عدّاد النفط لم يعد منذ دهور شغّال، وبأنّ وضعه يتطلّب الاصلاح أو الإستبدالْ، وعلى كلّ حال فإنّ الأصدقاء من الفرنجة هم أهل ثقة وليسوا من "القلاّبة" الأنذال، ولذلك جدّدنا لهم العقود لأجيال من بعد أجيال، فهم يأخذون نفطنا وملحنا وحجارة قديمة لا قيمة لها، ويعطونا نوتيلاّ38 وعطورا وملابس ونعالْ…
هنا قاطعت محدّثي قائلا: ويحك! لقد صدّعت رأسي بمثل هذه الأخبارْ، أوَلا يوجد من بين العصافير النادرة من يورور39 ورورة الأحرارْ؟ ألا يوجد بين الطيور فصيلة الثوّارْ؟
قال: بلى... بل مشكلتها في كثرتها، وهي صغيرة الأحجام، ضعيفة الأجسام، كثيرة الأسقام، تعشق الانقسام، وتكره الالتئام، وكلّها ترى نفسها زعيما أو إمامْ، تسبّ الإعلام وما أن يستضيفها حتى تهرول إليه كالأغنام، تدّعي كره الطغاة والفاسدين وتحيط نفسها بالأزلام... خلاصة الأمر أنّها بغبائها قد أطالت في عمر السيستامْ40 …
هنا أعرضتُ عن محدّثي وودّعته قائلا: موعدنا بعد خمسة أعوام… فلربّما استفاقت خلالها الأنامْ، أو أطلّت في السماء صقور من وراء بعض الآكام، فتنقر عصافير الشؤم وتطرد الأزلام… وإن لم تفعلوا ذلك، فإنّكم، وربُّ الكعبة، أمّةُ أزْكامْ…
1-من الزَّغَلِ وهو الغِشّ.
2-وَاغِلٌ إِلَى الوَلِيمَةِ: الآتِي إِلَيْهَا وَهُوَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ إِلَيْهَا.
3-تشبه البغال في عقمها.
4-حينما استعمرت من قبل الفرنسيين.
5-وهو السوط.
6-في اللهجة الدارجة التونسيّة ركش يركش فهو راكش أي اختبأ عن الأنظار.
7-الرُّتيلاءُ: الرُّتَيْلَى، جنس حشرات من العناكب أنواعه قليلة متوسطة القدِّ، وهي قانصة مفترسة وسامّة
8-وأشهرها ساحة باردو حيث يوجد البرلمان.
9-الفاكية من الفاكهة، وتعني هنا المُكسّرات من فستق ولوز وصنوبر وجوز.
10-مغنّي الراب المعروف.
11-معرّبة من الفرنسيّة وهي حاوية الفضلات.
12-مِنخاب: اسم، الجمع: مَناخيب. رجلٌ مِنْخاب: ضعيفُ لا خير فيه. (معجم المعاني الجامع).
13-يقال هَرِشَ فلان أي ساء خُلُقه.
14-جرَش القمحَ ونحوَه: دقَّه دقًّا غير ناعم، طحنه ولم يُنعم طحنه. (معجم المعاني الجامع).
15-ورش: الوَارِشُ الداخل على القوم وهم يأكلون ولم يُدْعَ. (قاموس المعجم الوسيط).
16-الخَرْشُ: سَقَطُ متاع البيتِ.
17-حرش الشّيء خشُن: حرِش الثوبُ -جلد حرِش / أحرشُ. وفي اللهجة الدارجة التونسيّة سنوات حُرْش تعني سنوات نحس والعياذ بالله.
18-أي انخفضت قيمة الدينار لضعف اقتصاد البلاد.
19-من مَرَشَ فلانًا: آذاه بالكلام.
20-يقال بكسر الشين المعجمة والراء الساكنة المهملة والشين المعجمة أيضاً عبد الله بن صالح: تعرف هذه الشوكة ببطن فارس شوكة مغيلة ومغيلة بلد من بلاد المغرب ومنهم من يسميها زوبعة إبليس لأجل تفرقها على الطرق. (معجم المعاني العام).
21-من التَرشُ: سُوءُ خُلُقٍ وضِنَّةٌ؛ أَي بُخْلٌ (تاج العروس).
22-من دَرْدَرَ الرَّاعِي بِالمِعْزَى: دَعَاهَا إلَى الْمَاءِ.
23-واحدها بندير وهو كالدُّفْ.
24-قيادات الأحزاب.
25-معرّبة من الفرنسية وهو في السياسة المراوغ’.
26-معرّبة من الفرنسيّة وهي السياسة. ولها في العاميّة معنى سلبي.
27-من البلق وهو سواد وبياض في اللون.
28-الزيوان هو حبوب صغيرة تطعمها عصافير الأقفاص. بلّوشي من بلاش أي مجانية.
29-المَنْجَنِيقُ: آلةٌ قديمةٌ من آلات الحصار، كانت تُرْمى بها حجارةٌ ثقيلة على الأسوار فتهدمها
30-اشتهرت بالكذب وصارت مضربا للأمثال، حتّى أنّ العرب كانت تقول: "فلان أكذب من سجاح". ادّعت النبوّة زمن الردّة وتزوّجت من مسيلمة الذي ادّعى هو الآخر النبوّة.
31-التجمع الديمقراطي الدستوري وهو الحزب الحاكم قبل الثورة، حلّه الشعب قبل أن يحلّه القضاء، وعاد من جديد تحت مسميات عديدة.
32-القَرَاحُ من كلِّ شيءٍ: الخالِصُ.
33-جمع بلقع وهو الخالي من كل شيء مكانٌ بَلْقَعٌ، وطريق بَلْقَعٌ.
34-القُعَاقِعُ: الكثيرُ الصَّوتِ.
35-مفرده الباقِعَة أي الداهيَةُ.
36-حيوان لا فقاري رخو يفرز حول جسمه صَدفة مفردة حلزونية الالتفاف، وهو يعيش في البر أَو البحر أَو الماءِ العذب.
37-مُحَدِّثٌ مِصْقَعٌ: بَلِيغٌ، ذُو فَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ.
38-Nutella
39-وَرْوَرَ في الكلام: أَسرع.
40-معرّبة وتعني المنظومة القديمة للحكم.