هل أنّ ما مارسته وتمارسه النّخب السياسية في تونس (لا سيّما الحزبيّة منها) منذ 14 جانفي 2011 إلى اليوم، سياسة بالفعل؟
كلاّ وألف كلّا!
ما مارسته هذه النخب، أحزابا وأفرادا هو نوع من "العهر" المتسربل بلباس السياسة.. لباس تخدع به الناس ونفسها (إن كان لها بقايا ضمير)..
ما الذي يدفعني إلى هذا الاستنتاج المؤلم حقّا؟
انظروا حولكم في ما حدث ويحدث بالبلاد.. من يصنع الأحداث يا تُرى؟ ومن يتحكّم في مقود هذا الوطن؟
بضعة إعلاميين.. بضعة نقابيين.. بضعة أمنيين.. بضعة رجال أعمال.. هؤلاء هم قادة البلاد لا أكثر.. إذا ما استثنينا الأوهام.. والأوهام كما تعلمون ليست إلا غيلانا خيالية نخيف بها الصغار عندما يستعصي عليهم النوم..
صحيح أنّ هؤلاء "البضعة" يستندون إلى طبقة.. طبقة هي الأخرى تستمدّ قوتها، أمام السواد الأعظم من الناس، من الأوهام ومن غيلان الحكايات الليلية..
صحيح أيضا أنّ هؤلاء "البضعة" يستندون إلى بعض "الدول المانحة".. ولكن تلك الدول المانحة تملك حدّا أدنى من ذكاء التجار وتعلم حدود ما تمنحه، ومتى ينبغي التوقف عن المنح..
أين المشكل إذًا؟
المشكل يتلخصّ في ما مارسته وتمارسه النّخب السياسية في تونس (لا سيّما الحزبيّة منها) منذ 14 جانفي 2011 وإلى اليوم.. ممارسة "العهر" المتسربل بلباس السياسة لدى تلك النخب السياسية (لا سيما الحزبية منها)، جعلها عاجزة عن الفعل المؤثر في الواقع.. وجعلها تعجز عن اتخاذ المواقف الحقيقية الموحّدة.. وجعلها فاقدة للمصداقية.. وجعلها فاقدة للحياء الذي بدونه لها أن تفعل ما تشاء ضمن "استراتيجية" السقوط المستمرّ..
ما وزن هذه النّخب السياسية في تونس (لا سيّما الحزبيّة منها)؟
وزنها الفعلي لا يكاد يُذْكر.. ومراكز الحلّ والعقد فيها لا تتجاوز أعدادٌ أفرادها أصابع اليد الواحدة..
هل تعلمون أنّ حالة الانقسام والتشرذم في صفوف الأحزاب والنخب المنتسبة للثورة.. تلك الحالة التي ساهمت إلى حدّ كبير في عودة المنظومة القديمة.. سببها بضعة أفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؟
هل تعلمون أنّ التحوّلات الاستراتيجية لمواقف "النهضة" الكبرى وما انجرّ وسينجرّ عنها من نتائج للبلاد عامة وللحركة خاصة سببها بضعة أفراد لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة؟
هل تعلمون أنّ مراوحة "حراك شعب المواطنين" في مكانه.. بل وتقهقهره عن نقطة إطلاق فكرته في أعين منتظريه، سببها بضعة أفراد لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة؟
هل تعلمون بأنّ معظم الأحزاب، تمُاَرس فيها تجاه القواعد، بهدف التحكم والسيطرة، سياسة التشبيه ( وهو تلبيس الحق بالباطل)، وسياسة التخويف والإيهام.. هذه تسوّق لمقولة "أعداؤنا يتربصون بنا لرمينا من جديد في السجون والمعتقلات"، وتلك تتعلّل بهواجس "الإختراق"..
حدّثني أحد الأصدقاء ممّن أثق في بعد نظرهم وغيرتهم على البلاد، بأنّ "تونس لا تحتاج اليوم لأكثر من مائة من رجالها.. مائة من الرجال الذين يقدّمون حبّهم لوطنهم، وعزمهم على الإرتفاع به إلى القمم السامقات، والصدق في القول، والإخلاص في العمل، وصفاء السريرة، والشجاعة في أخذ القرارات اللازمة.. يقدّمون كلّ ذلك على مصالحهم الخاصّة، وعلى نرجسياتهم، وعلى حبّهم للزعامة والظهور.. مائة من هؤلاء تكفي.. مائة من تلك الشموع التي لا تخشى على نفسها من الذوبان ما دام الهدف إنارة الطريق للجميع"..
عدتُ بعد ذاك الحديث إلى كتب التاريخ، فوجدتُ أنّ كلّ الثورات والتحولات الكبرى، تنطبق عليها مقولة صديقي، ذي النظرة الثاقبة، البعيدة المدى..