استرسل صديقي في الكلام غير آبهٍ لوجودي ، حتّى خِلْته يهذي:
- الكلّ يقرّ اليوم بأنّ خطّة بن علي قد نجحت في تحقيق أهدافها.. وصلت إلى ما كانت تصبو إليه، وأكثر؛ فصيرورة التّفكّك والانهيار كانت أسرع وأسهل من المتوقّع، وأنّ عموم الجسم لم يحرّك أدنى مضادّات حيويّة.. وأنّ صرخات الألم والموت المنبعثة من حناجر آلاف المساجين كانت مكتومة بأسوار برج الرّومي وجدران كلّ الأبراج المشابهة له.. فصارت هذه الصرخات كالّتي تحاول حناجرنا إطلاقها أثناء كوابيسنا اللّيليّة.. بلا جدوى.
في وحشة هذا الكابوس العام، المظلمة، كان لا بدّ لبعض الشّموع أن تضيء.. شعلة، فإثنان، فثلاثة، فأربعة.. ربّما أكثر من ذلك.. استمرّت في الوميض بوعي تامّ منها بأنّ في وميضها يكمن موتها.. بالذّوبان. ويسمّى هذا "تضحية" في آخر قاموس أحرقناه.
لا أملك إلاّ أحني هامتي احتراما، لرجال ونساء أذكر منهم هشام جعيّط، محمّد الطّالبي، منصف المرزوقي، توفيق بن بريك، مختار اليحياوي، أمّ زياد، سهام بن سدرين.. للوهلة الأولى لا شيء يجمع بين هؤلاء.. لا سيّما الإيديولوجيا، ولكن ما جدوى الأفكار والإيديولوجيّات أمام القيم؟ إنّها – أي الإيديولوجيّات والأفكار – مجرّد طلاء برّاق لا يمكن بأيّة حال أن يحجب عن أعيننا معدن الرّجال.. فهذا هو الأهمّ، في نهاية الأمر..
الرّْجُولِيَّهْ: كلمة تتداولها العامّة، وتجهلها النّخبة..
جعيّط، بكبريائه المبني على عمق علمه بالتّاريخ، رفض الانصياع للرّداءة العامّة.
الطّالبي، مؤرّخ ومفكّر مؤمن، أصرّ أن لا يلقى الله وفي كتابه صمت ورضاء بالظّلم1 .
المرزوقي، طبيب وكاتب آمن بقدسيّة حقوق الإنسان وكرامته، ولم يتزحزح عن هذا الإيمان قيد أنملة، ولو فعل لحكم على نفسه بالخيانة.. خيانة أبقراط.
بن بريك، شاعر قبل كلّ شيء، وصحفي حين يغيب عنه شيطان الشّعر، وهو قبل وبعد ذلك عاشق لصوت ماريّا كلاس، ولذلك فإنّه انفجر ذات يوم.
اليحياوي قاضٍ رأى بأمّ عينه، لا عدالة العدالة في تونس، فصدح بالأمر، كلّفه ذلك ما كلّفه.
أم زياد، سهام بن سدرين وغيرهنّ نساء فهمن المعنى الحقيقي لحريّة المرأة، وأنّها ليست مجرّد شعار يستعمله المستبد لتبرير استبداده ولأغتيال حريّة مجتمع بأسره..
أمر مؤكّد.. كلّ هؤلاء قرأوا ذات يوم من أيّام الصِّبا قول المتنبّي، فسكنهم:
عشْ عزيزا أو متْ وأنتَ كريم..
1 كتبت هذا الكلام في 2003 وأنا أستنكر ما آل إليه هذا الرجل وهو في أرذل العمر، فأنسته السياسة دقّة وعمق ورصانة العالم... وسبحان مغيّر الأحوال