ما نسينا أنتَ قد علّمتَنا بسمة المؤمن في وجه الرّدى
ستظَلُّ في الحنايا علما يُهتَدى به على طول المدى
قلت لصاحبي، عائدا به إلى صراع السلطة ضدّ الإسلاميين:
- لقد كانت خطّة استئصال الظّاهرة الإسلاميّة محكمة ومتقنة… وكان تطبيقها على أرض الواقع أكثر إتقانا. فكيف كانت ردّة فعل الإسلامييّن تجاه هذا المخطّط الذي كان يستهدف وجودهم ومن ورائه وجود أيّ نوع من أنواع الوعي الجمعي، لاسيّما وقد علمت حركة النّهضة بالخطّة وبتفاصيلها مسبقا؟
أجابني متنهّدا، وعلى وجهه ابتسامة غامضة:
- لا شيء…
لقد أسلمت الحركة الإسلاميّة أمرها للّه في أضخم عمليّة "تواكل" وسمّته "توكّل". ووقفت موقف المنتظر للعاصفة حتّى تمرّ، حاسبة أنّ ما كان يحدث لها "مجرّد" محنة وابتلاء من الله "وبشِّرِ الصَّابِرِين…". نعم! لقد اتُّخِذت بعض الإجراءات الاحترازية فغادر عدد من القيادات وعائلاتهم البلاد نحو بعض المنافي العربيّة والغربيّة.. فإحدى كبرى المبادئ الإستراتيجيّة للحركة الإسلاميّة في تونس، ممّا وصفته "بالخطوط الحمراء" الّتي لا يمكن الحياد عنها هي الحفاظ على سلامة قيادتها.. أمّا القواعد العريضة لهذه الحركة فقد تُركَت لأمرها "لتواجه" مصيرها المحتوم؛ فكانت الملاحقات وكانت المداهمات وكانت الاعتقالات وكان التّعذيب وكان التّقتيل وكان التّشريد وكان اليتم وكان تخريب البيوت وكان الحرمان من الشّغل وكان التّعريف بالإمضاء في مراكز الشّرطة في الصّباح وفي المساء لمن أنهى فترة عقوبته…
***
مأساة الحركة الإسلاميّة أنّها حملت فكرة - لا بل حلما - لم يتحمّل وعيها - أو بالأحرى لا وعيها- التّاريخي ثقلها، فكان أن ضيّقت آفاقها واختزلتها ضمن الأطر المفروضة عليها من قِبل من جاءت أصلا لمقاومتهم ولإستبدال مقولاتهم "الحداثيّة".. لقد رفعت الحركة الإسلاميّة شعار محاربة النموذج الحضاري الغربي، المستعبد للإنسان، أو بالأحرى تجاوزه إلى نموذج حضاري إسلامي يعيد الإنسانيّة لهذا الإنسان بتحريره من قيود المادّة ومن جاذبيّة الأرض ومن تسلّط العباد، لتسمو به إلى ما خُلق من أجله: "عبادة ربّ العباد"، لعلّه يحقِّق على هذه البسيطة - الفانية حتما - بعض عدل وبعض حريّة وبعض كرامة يشعر في ظلالها بالسّعادة أو بما يقاربها؛ بدون اشتراط اعتناق الإسلام للتّمتّع بذلك، وهذا ما يشهد عليه نصّ القرآن وكذلك التّجربة المحمّديّة، إذ أنّ اعتناق الإسلام هدفه استئناف تلك السّعادة بعد الممات، وهذا داخل في باب الإيمان، والإيمان كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة، أمر إختياري، بل هو قطب الرّحى، وأعلى مراتب ممارسة الحرّيّة، هذه النّعمة الإلاهيّة المرتبطة شديد الارتباط بنعمة العقل "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً.."
لقد فهم سيّد قطب رحمه الله، ربّما لشدّة قربه من الكلمة le verbe - فلقد كان وبقي إلى آخر رمق في حياته، أديبا وشاعرا ومفكّرا حرّا قبل أن يكون منظّرا لجماعة الإخوان المسلمين - وقلّة من أمثاله، هذا المعنى العظيم، فدفع ثمن هذا الفهم باهضا، حياته.. من أعدم قطب في نهاية الأمر؟ حكّاما صغارا.. ملوكا بلا تيجان، ولكن في أزياء عساكر لا تتّسع صدريّاتها لكلّ النّياشين القصديريّة التّي لم تُجنى في ساحات معارك الذّود عن الوطن، بل على المنصّات الخطابيّة وسلالم التّرقيات الإداريّة المشبوهة.. استخرج هؤلاء نظريّاتهم من سائل بالوعات متعفَّن، هو خليط من القوميّة في شكلها الأوروفاشستي euro-fasciste، ومن الاشتراكية في شكلها الشرق أوروبي version Europe de l’Est ، والثّانية لا تقلّ فاشية عن الأولى، وزادوها مسحة من عروبة داحس والغبراء، بعد أن أسقطوا منها النّبل والشّهامة والشّرف.. ولمن لا يزال يخامره شكّ في هذا الأمر، فليبحث في دليل الهاتف لبلديّة لاهاي عن عنوان ميلوزيفيتش صلوبودان (مات المجرم السفاح في الأثناء).. سيشرح له الأمر بأكثر تفصيلا.
نظريّة سيّد قطب حول "الجاهليّة المعاصرة" أو "جاهليّة القرن العشرين"، وحول وجوب إرجاع "الحاكميّة لله"، هي – كما عبّر هو عن ذلك - ثمرة أربعين سنة من القراءة والتأمّل لا للترّاث العربي الإسلامي فحسب بل للمخزون الفكري الغربي بتيّاراته… صاغ سيّد أفكاره في ظرف وجيز نسبيّا – عقد ونصف تقريبا – قضّى معظمه في سجون عبد النّاصر، لينتهي به المطاف إلى حبل المشنقة، في يوم مظلم من أيّام أغسطس 1966.. يومها كتب للزّعامة العربيّة هزيمة 1967(نكسة لمن أراد من المتفائلين!)، وما تبعها ويتبعها إلى اليوم من هزائم.. أقزام الفكر وصغار النّفوس من أتباع اليسار والقوميّة موديل الصحاري السّاخنة، ممن قرأوا بضعة كتب في ترجمة رديئة للفكر الماركسي اللّينيني، سارعت إلى تصنيف قطب ضمن قائمة منظّري الرّجعيّة، الدّاعين إلى إقامة ثيوقراطيّة يسودها النّظام الأخلاقويّ l’ordre moral، والإقطاعيّة، مع إضافة لازمة لمسألة المرأة وما ينتظرها من غُبن وقمع ومنع من إبداء مفاتنها بالبيكيني على رمال شواطئنا الجميلة.. لم يفهموا شيئا من قطب المفكّر.. هل قرأوه حتّى؟ ناهيك عن سيّد الأديب.. اليوم، وبعد أربعون عاما من إعدام هذا الرّجل، ترى هؤلاء وقد خضعوا لكلّ المتمورفوزات métamorphoses الممكنة، فتحوّلوا، كما تتحوّل الضفادع، من أقصى اليسار المتمرّد إلى برجوازية باهتة الألوان – روبا فيكيا – ولكن في ثبات على هستريتهم.. تراهم يعجبون أنّ فكر الشّهيد لا يزال يستقطب أجيالا بأسرها، فيطالبون بمنع هذه الأفكار وبإعدامها هي الأخرى..