رئيس الجمهورية بتلميحه وربما بتمهيده لحل المجلس الأعلى للقضاء والتحامل على القضاة هو بصدد تحدي الإجماع الوطني والقضائي الرافض لهدم المؤسسات الدستورية وخصوصا المجلس الأعلى للقضاء…
فالمتابع للمواقف السياسية والمدنية والحقوقية والقضائية يلاحظ رفضا مطلقا وشاملا لتلويح الرئيس وتهديده المبطن بحل المجلس الأعلى للقضاء، موقف عبرت عنه مختلف القوى السياسية والمنظمات الوطنية الفاعلة في البلاد، وعموما القوى الحية التي شاركت في مسار التأسيس الدستوري والديمقراطي باختلاف طبيعتها: أحزاب، جمعيات، نقابات، شخصيات وطنية…
كذلك المجتمع القضائي من هياكل قضائية تمثيلية والمجموعات القضائية النشطة وخصوصا المجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية ممثلة للسلطة القضائية فضلا عن رموز القضاء المستقل يحذرون من خطورة المساس بالمؤسسة الضامنة لاستقلال القضاء وخصوصا بالبناء الدستوري الذي يسندها متمثلا في دستور 27 جانفي 2014…
الإجماع القضائي النادر كان حاضرا هذه المرة في الدفاع عن وجود المجلس رغم الانتقادات الداخلية الكبيرة لأدائه على خلفية تعثره في القيام بالإصلاحات اللازمة وسوء تعاطيه مع مع ملفات الفساد وخاصة ملف الرئيس الأول لمحكمة التعقيب السابق وغلبة الحسابات عليه، وقد جاءت التهديدات الجدية بإلغاء القضاء كسلطة وتحويله لمجرد "وظيفة" كما وصفها الرئيس نفسه لتُنهي ربما حالة التشرذم المزمن التي تشهدها الساحة القضائية ولتوحد القضاة حول موقف رافض لحل المجلس في انتظار تحركهم جماعيا وميدانيا في إطار جبهة صد قوية تحسم الأمر نهائيا لفائدة القضاء المؤسساتي المستقل الرافض لتسخيره لسلطة الفرد الواحد وضمه لباقي السلطات والأجهزة التي استأثر بها الرئيس خارج الدستور ومبادئ الحكم الديمقراطي…
لكن السؤال الي يطرح، إذا كان الجميع تقريبا يرفض هدم ما تم بناؤه ومراكمته عبر الزمن بالمشقة والتضحيات، فمن بقي إذن مع الرئيس في فكرة حل المجلس والتعجيل بإصدار مرسوم جديد ينظم المجلس الأعلى للقضاء؟
تقريبا لا أحد من الفاعلين السياسيين الديمقراطيين والمدنيين والقضائيين الموثوقين مع طرح مماثل في وقت الاستثناء، وحتى الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات التي ساندت الانقلاب وكانت في صف الرئيس راجع أغلبها موقفه ووضع المساس بالدستور ومؤسساته في خانة الخطوط الحمراء…
ويرى الرافضون لتوجهات الرئيس بوضوح أن ما تُقدّم على أنها مشاريع إصلاح إنما هي في الحقيقة محاولات للالتفاف على النصوص الدستورية والتشريعية وتخريب للمكاسب المحققة من الثورة في 2011 ومن دستور 2014 سوف يؤدي إلى تكديس السلطة والسيطرة على القضاء مع استحالة التدارك القريب وإعادة بناء مؤسسات مستقلة بديلة في ظل الوضع الانقلابي أو حتى بعد تجاوزه…
في مقابل "جبهة" الرفض الواسعة، لا تكاد تجد مدافعين صريحين وواضحين على توجهات الرئيس في ضرب القضاء وإلغاء ضمانات استقلاليته وحل المجلس وتبرير استهداف القضاة سوى أدوار خفية معتادة لنفس الفئة المحدودة من قضاة كل السلطات المتعاقبة تحولوا بعد الانقلاب إلى قضاة الرئيس يعرضون خدماتهم ويبررون على استحياء قراراته، وكذلك أصوات حزبية وفردية محدودة ومعزولة تريد الاستفادة سياسيا وشخصيا من موقع الرئيس في الحكم...وقد أفقدتها مساندة الانقلاب والسكوت على الردة نحو الاستبداد الكثير من مصداقية...تُضاف إليها بالخصوص - ويا للغرابة - صفحات البذاءة والانحطاط غير المسبوق التي تستهدف بالافتراء والتشويه كل منتقدي الرئيس ورافضي السير في ركابه بمن فيهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء نفسه السيد يوسف بوزاخر وأبرز قادة "حراك القضاة الموقعين" محمد العفيف الجعيدي وغيرهما من أصحاب الرأي الحر من القضاة المتمسكين باستقلالهم وبموقفهم الرافض لإلغاء السلطة القضائية وتحويلها لجهاز تنفيذي يأتمر بأمر الرئيس أو يلبي أمنياته…
غياب مساند سياسي أو حقوقي أو أكاديمي محترم وذي مصداقية لتوجه الرئيس يطرح السؤال حول الجهات الخفية التي تُسوّق مع الرئيس وباسمه للهدم الشامل لمكتسبات الثورة وللمؤسسات الدستورية وتدير أيضا صفحات دعمه العنيف والافتراء على خصومه ومنتقديه بأقبح الألفاظ وأقذر الشتائم ومختلف أنواع الكذب والتلفيق بحيث يصعب التصديق بأن ذلك يصدر عن جهة سياسية ذات فكر ومشروع إصلاح ومرجعية لائقة للحكم ولتحسين أوضاع الناس، بل لعل ما يصدر منذ مدة وباستمرار عن تلك الصفحات - التي تتمتع بحصانة فعلية وتصدر منشوراتها خصوصا بالتزامن مع مواقف الرئيس إما تحضيرا واستباقا لخطابه أو تبريرا لاحقا لمواقفه وتعديا على منتقديه - هو أشبه بما يصدر عن ميليشيات وعصابات منتظمة خارج القانون أو بماكينات التضليل الإعلامي التي تستخدمها أجهزة دولة مخترقة وموظفة في أعمال إجرامية…
فكيف يسكت الرئيس عن هذه الصفحات المنسوبة إليه، وقد سبق تنبيهه مرات عديدة؟ لماذا لا يُدينها؟ لماذا لا يتبرأ منها؟
هذا السكوت المريب هو الذي يمنح الحصانة لتلك الصفحات، بل يمنحها أيضا الضوء الأخضر لمزيد التشويه والترهيب وتمهيد الطريق للرئيس مجددا لضرب المقاومة القضائية ثم تطويع القضاء لفائدة سلطته الخاصة إما بحل المجلس الأعلى للقضاء أو محاولة توظيفه لخدمة أجندته - لو استطاع إلى ذلك سبيلا.
ربما لا يقدر رئيس الجمهورية على حل المجلس الأعلى للقضاء بعد الاستنفار الوطني والقضائي الكبير ضد هذا التوجه، لكن الخشية أن يُغيّر الرئيس توجهه من استهداف المؤسسة بالحل المباشر إلى الحل الفعلي أو المُقنّع بإلغاء العمل بالدستور المفضي للحل الآلي لكل المؤسسات الدستورية بما فيها المجلس الأعلى للقضاء، أو بإصدار نصوص ومراسيم في إعادة تنظيمه المجلس وتغيير تركيبته ووضعه تحت سيطرته، أو إلى استهداف جماعي للقضاة أنفسهم تحت ذرائع مختلفة ومُعوّمة كالفساد وعدم والحياد...عساه يصل إلى نفس النتيجة وهي ترهيب القضاة وإسكاتهم وجعلهم تحت السيطرة ليكون القضاء تحت طلبه في المحاكمات والقضايا التي تعنيه في خصوماته السياسية…
لكن في كل الأحوال سيجد القضاء ومؤسساته الضامنة لاستقلاله مهما كانت المآخذ على أدائها القوى القضائية وغير القضائية التي تستميت في الدفاع عن وجودها بنفس العقيدة التي تدفعها للعمل على إصلاحها…
ربما لم يتحقق الكثير لفائدة القضاء المستقل طيلة عشرية الثورة، وكان بالإمكان إنجاز الكثير ورؤية "منتوج العدالة" أحكاما وقرارات ومسار محاسبة ومكافحة للفساد جدي وفعال...لكن المؤكد أن:
- بناء مؤسسة قضائية مستقلة عن السلطة السياسية (المجلس الأعلى للقضاء) تضمن استقلال القضاء ولها الولاية التامة على القضاة وتمنع التدخل في القضاء ليس شيئا هينا كما يتصوّر البعض، وهي ليست "لا شيء" كما يعتقد الرئيس…
- عقيدة استقلال القضاء والوعي الجماعي الواسع بأهمية الدفاع على وجود المجلس الأعلى للقضاء وعلى المؤسسة القضائية من نوازع الهدم...هي أيضا - ورغم الجحود - من المكاسب التي تحققت على مر السنوات الماضية بفضل الحوارات والجدل العمومي والنضال المرير والمعارك "الدامية" مع الحكومات المتعاقبة...وهذا المخاض الصعب وربما المتعثر هو الذي سمح بفهم جدوى الفصل بين السلط ومركزية استقلال القضاء في دولة ديمقراطية، وهو الذي خلق التراكم في الوعي والعقيدة والمقاومة الذي بدونه لا يمكن إجراء إصلاحات حقيقية وعميقة تصمد عبر الأزمان حتى ولو أقرها "الحاكم بأمره" وحده وبجرة قلم…
- تمسك عموم القضاة بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية منتخبة ضامنة لاستقلال القضاء - مهما كانت هناته - هو من مظاهر الوعي الاستقلالي الجدير بالتقدير لا بالترذيل.
- الرفض المطلق لعموم القضاة أن يكون القضاء تحت هيمنة السلطة التنفيذية في شخص رئيس الجمهورية هو دليل إضافي على تعافي الوعي القضائي وقطعه فكريا مع رواسب الاستبداد وذرائعه، وهو تأكيد لرسوخ القناعة العامة بأن استقلال القضاء تحققه مزيد من المأسسة ومن ضمانات الاستقلالية عن السلطة السياسية، وأنه لا يمكن تخيل عدالة وإصلاحات قضائية من إنجاز سلطة تنفيذية بمفردها...من إنجاز رئيس جمهورية بمفرده...فكل ما يفعله الرؤساء بالقضاء - إذا انفردوا - جعلوه تحت إمرتهم…
في الأخير إن ما سيحدد فعليا مستقبل السلطة القضائية ووزنها ومقامها ليس قرارات الرئيس المحتملة بشأن المجلس أو قانونه أو باب السلطة القضائية في الدستور أو إزاء القضاة، وإنما الموقف المقاوم للقضاء المستقل في كبرى معاركه…