التمجيد المبالغ فيه للقوات المسلحة من قبل رئيس الجمهورية في العيد الوطني لقوات الأمن الداخلي والاحتفال المشترك بذات العيد بين وزيرة العدل ووزير الداخلية بمقر وزارة الداخلية في سياق الانقلاب على الديمقراطية والاعتقالات السياسية وبالتوازي مع سحل القضاء وضرب مقوماته وتشويه القضاة ولعنهم صباحا مساء...
هذا التمجيد الصادم يستعيد لنا حقبة الدولة البوليسية في عهد الديكتاتور بن علي حيث كانت وزارة الداخلية بقبضتها الأمنية وطيلة عقدين من الزمن هي المتحكمة في الحياة السياسية وفي منظومة العدالة وفي تفاصيل حياة التونسيين على أنغام أغنية صوفية صادق "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان" تأكيدا غير مقصود أو عكس المقصود بأن الأمن بمعنى البوليس هو قوام كل شيء في هذه البلاد وهو الحاضر في كل مكان من حياة الناس…
الإشادة المضخمة بالأمن دون تنسيب ليس لها ما يبررها في مقابل شيطنة القضاء وتحميله كل المسؤوليات، فهل من الممكن أن نصدق أن ذات البلاد وذات المنظومة تحتوي على أمن "ملائكي" وقضاء "شيطاني" حال أن "النجاحات" الأمنية والإيقافات السياسية الضخمة التي يُسوّق لها كنجاحات لا تتم قانونيا وشكليا أو صوريا إلا بواسطة القضاء، فكيف نُثني على المأمور بالاحتفاظ وبالتفتيش وبالمداهمات (وهي أصلا ليست مجلبة للفخر) دون الٱمر به…
ربما يقع التدارك والتنسيب كما يتم دائما عند الحديث عن "القضاة الشرفاء" لكن هذه الكلمة لن تزيد القضاة الموصوفين بالشرفاء سوى إساءة ووصما بعد ان استقر في وعي الناس بحق بأن القضاة "الشرفاء" هم قضاة السلطة والتعليمات…
لقد أوجدت الممارسة السياسية المضللة قاعدة ثابتة: كلما تواجد الأمن بكثافة في الخطاب وفي الميدان كلما قل الأمن والأمان…وكلما غاب العدل رقيب الأمن نقص الأمان واختل الميزان، فلا قيمة للوجود الأمني المتحرر من رقابة القضاء حامي الحقوق والحريات وكافل المحاكمات العادلة…
جزء هام من الأمن جدير بكل التقدير والاحترام والثناء، وجزء محترم من القضاء يحتاج الاعتراف والاحترام لتحليه بالنزاهة والشجاعة والاستقلالية لرفضه التعليمات وتصديه للتجاوزات…وبتكامل الفريقين فقط يتحقق العدل والأمن والأمان…عدا ذلك نحن في دولة "البوليس"…وحاشى شرفاء الأمن…وأشرف القضاة!