الخط التحريري الأصيل والثابت لهذه السلطة الحاكمة هو خط بوليسي قمعي مُعاد للحرية لا شك، تكفي الإشارة إلى الإشادة الرئاسية الدائمة بالقوات المسلحة والسلطات الأمنية وزيارات الرئيس المتكررة للثكنات وتردده الدائم على وزارة الداخلية وإعلانه من داخلها عن حل المجلس الأعلى للقضاء واتخاذها منطلقا لإعلان حملاته للتطهير وغيرها من القرارات ذات المنزع الهجومي العنيف، وعزله القضاة بتقارير أمنية مفتعلة وكيدية، وتغليبه المستمر للروايات البوليسية للأحداث والوقائع رغم وهنها وعدم معقوليتها على حساب الروايات القضائية، ونزوعه في خطاباته نحو الاتهام والإدانة والتشدد والتهديد والوعيد وبعث رسائل التخويف للقضاة وتوجيه قراراتهم والحرص العلني على الإيقافات ونكران قرينة البراءة وعدم الاعتراف بالحرية كمبدأ…
كل تلك الممارسات كان لها صدى مباشر في تعامل القضاة - إلا من رحم - مع الملفات القضائية ذات الأبعاد السياسية أو الشاغلة للرأي العام ..فإذا لم تكن الإرادة السياسية أو الأمنية في الإيقاف والإدانة والسجن واضحة أو كانت غائبة في ملف ما فإن "القضاة الشرفاء" يفترضون أن السلطة السياسية والأمنية تُفضّل الإيقاف والادانة والسجن فيقومون باللازم التزاما بالخط التحريري، وهم يفعلون ذلك إرضاء لها أو افتراضا بأنها تريد ذلك خصوصا عندما تكون الوقائع تستهدف السلطة رأسا أو تقلقها أو تشكل اعتداء عليها…هم بكل بساطة وفي أدنى الحالات قضاة قرؤوا جيدا فنجان الرئيس ورغباته ثم حاولوا أن يكونوا من الشرفاء الذين تحدث عنهم…
لذا ليس للسلطة الحاكمة أن تدّعي تفاجئها بقرارات قضائية تعسفية و قامعة للحريات وقد صدر منها الكثير، وهي التي خلقت مناخات الاعتقال التعسفي وتصفية الخصوم والتشدد وقسوة العقاب…وفعلت كل ما يجب ليُسيطر الأمن على مسارات القضايا الجزائية ولتدجين القضاء وإرعاب القضاة وتخويفهم وتسليط العقاب الحيني عليهم بمجرد إفراجهم عن أحد المتهمين الذين لا دليل على إدانته في أحد الملفات…فلماذا يُراد من القضاة في هذا الملف بالذات ألا يوقفوا الشابين صاحبي الأغنية الساخرة؟
لا يبدو أن شيئا ما تغير في منظومة تفكير السلطة التي لا بوصلة لها في مختلف الوضعيات إلا الحفاظ على نفوذها وسلطتها ..لطالما كانت مصلحتها واستتباب قوتها مرتبط بالقمع والتصلب والتضييق على الحرية،
لكن قد تقتضي مصلحتها ودوام حُكمها "إيثار" الحريات أو التظاهر بالدفاع عنها فيبقى "الموظفون" و"الشرفاء" في العراء…فيَدفعون…وحدهم يدفعون…وتحتفظ السلطة لنفسها بالقوة الغاشمة وتستمر في نهجها الأمني ب"شرفاء" جدد!