الكثير من التونسيين يسارعون عند مناقشة قضايا السياسة والشأن العام إلى استنتاج سريع، فيقولون بكل ثقة في النفس: نحن لسنا أهلا للديمقراطية! وهذا استنتاج خاطئ ومظلل، فالديمقراطية في الأصل أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، والشعب هو الانسان، والانسان حرّ، ولا يوجد إنسان لا يستحق الحرية.
كل ما في الأمر أنه يمكن تشبيه الديمقراطية بلعبة (المربكة) (Puzzle) والاستنتاج الأقرب إلى الدقة في اعتقادي أننا لم نحسن تركيب الصورة حتى الآن، وظللنا نتصرف في القطع المعروضة بين أيدينا بشكل خاطئ: حرية التعبير، التعددية، سحب الثقة، الانتخابات، التداول على السلطة، التمثيل النيابي، المؤسسات الرقابية، الدستور، الإعلام، الأحزاب، النقابات، الخ..
لا يوجد إنسان يمكنه أن يركب الصورة المربكة بضربة واحدة، فاختبار موقع القطع الصغيرة من الصورة النهائية يخضع بالضرورة إلى التجربة والخطأ، شرط أن تكون القطع أصلية تنتمي إلى نفس الصورة وأن نتمسك بالهدف النهائي: تركيب الصورة. تركيبها بشغف، ومثابرة وإصرار، لأنها لا مجال للمعجزات فيها والخوارق. فالصورة المفككة عندما تركب قطعها بشكل متلائم ومتجانس تعود إلى شكلها الأصلي في النهاية. والديمقراطية هي الديمقراطية وإن تعددت صورها وأشكالها: نظام يحفظ للإنسان حريته وكرامته، ويقيه من شرور القهر والاستبداد.
لا يوجد إنسان لا يستحق الحرية وليس أهلا لها، وهذا هو جوهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واحترامه يعني ألاّ تكون الدولة -تحت أي مسمى حتى وإن كان الخطر الداهم- أداة للتسلط والتحكم في حرية الأفراد، وألا يكون النظام أداة لممارسة العبودية الجديدة: عبودية الفرد أمام سيادة الدولة أو القانون.
احترام حقوق الانسان الأساسية وجوهرها الحرية، يعني ألا تكون (السيادة للشعب) القاعدة الخرسانية التي تنهض عليها دولة الاستبداد الجديدة، وألا تكون الأخطاء الديمقراطية (تلك الأخطاء في تركيب قطع المربكة)، سببا في جعل الجمهورية سجنا كبيرا تحت سماء مفتوحة! والقول بأننا لسنا أهلا للديمقراطية ليس نقدا ذاتيا حقيقيا، بل هو امتداد للخطيئة الأصلية التي ارتكبناها يوم اعتقدنا أن الدولة في حاجة إلى أنبياء ورسل وأن لأولياء الله الصالحين فيها كلمتَهم حتى في عصر ما بعد الحداثة…!
الشعوب التي تعتقد أنها ليست أهلا للديمقراطية هي التي تذهب إلى صناديق الانتخاب (إذا أتيح لها ذلك) للبحث عن منقذ ومخلص ونبي مجهول، ولذلك تصعد الشعبويات القاتلة على سلم الديمقراطيات، قبل أن تكسره بيديها لتمنع أي طرف آخر من استخدامه. إننا اليوم وفي هذه اللحظة الحرجة من تاريخ بلادنا في حاجة إلى وقفة نقدية حقيقية لمراجعة الذات وعدم الاستسلام للأمر الواقع، أن نؤمن بقدرتنا على تحقيق تغيير إيجابي مهما تعاظم شأن الرداءة من حولنا، وأن نثق في إمكانية الوصول في أسرع الأوقات إلى ديمقراطية حقيقية نستحقها جميعا لأننا أهل للحرية…