الهروب إلى الأمام

أكدت المحكمة الإدارية من جديد أن قراراتها تلزم الهيئة المستقلة للانتخابات بإدراج المحكوم لفائدتهم في قائمة المترشحين للانتخابات الرئاسية حتى إن اقتضى الأمر تغيير الرزنامة، وذلك في وقت بدأت فيه الحملة الانتخابية رسميا، واتخذت السلطة كما هو واضح قرار (الهروب إلى الأمام).

ماذا سينتج عن هذا الوضع؟ لقد خرجنا اليوم من دائرة الاحتمال السياسي إلى منطقة اليقين القانوني، إذ يمسك كل أطراف الصراع مسبقا ورقة تسمح لهم بالطعن في نتائج الانتخابات وإبطال مفعولها، هكذا فقدت الانتخابات الرئاسية قبل إجرائها أهم شرط من شروط نجاحها: احترام الدستور وإعلاء راية القانون فوق أي حسابات إيديولوجية أو ذاتية ضيقة. وهذا لم يحدث من قبل.

وعلاوة على ذلك فقدت العملية الانتخابية أهميتها أمام سؤال أشد خطورة، تطال تداعياته حياة الأفراد جميعهم لا المعنيين بالشأن العام فقط، إذ لم يسبق أن طرح في تونس مثل هذا السؤال في أي مرحلة من تاريخها الحديث: ماذا سيحدث عندما تبطل المحكمة الإدارية نتائج الانتخابات الرئاسية؟ وكيف سيكون الوضع عندما لا تعترف المؤسسات بنتائج الانتخابات ويحدث فراغ سياسي على رأس الدولة؟

منذ فجر التعددية في بلادنا (1981) كانت السلطة تعمد إلى تغيير النتائج التي لا تخدم استمراريتها بالتلاعب بالأرقام، بعد استغلال كل المنغصات الممكنة بهدف تحويل وجهة الناخبين والتحكم في إرادتهم، ولم تعرف البلاد انتخابات حقيقية لا يمكن الطعن في شرفها إلا بعد 2011، فرغم كل الصراعات لم يشك أحد في نزاهة أي انتخابات وقعت. بل ويعتبر صعود الرئيس الحالي ثمرة من ثمار (الانتقال الديمقراطي) سواء أشاء الاعتراف بذلك أم أبى!

وقبل ذلك، حرص التونسيون في مختلف مراحل تاريخهم على تفادي حالة الفراغ، ففي 2011 اعتمدوا دستور 1959 لتأمين انتقال السلطة رغم الحالة الثورية التي كانت تسمح بكل شيء! وفي 1987 أزيح الرئيس بواسطة فصل دستوري، كما إن بورقيبة لم يخلع لمين باي عن عرشه إلا بعد إعلان المجلس التأسيسي رسميا عن قيام الجمهورية، بل ويعود تاريخ آخر فراغ سياسي على رأس السلطة شهدته البلاد إلى صائفة 1705 عندما أسر الجند الإنكشاري الجزائري ابراهيم الشريف فقرر الجيش في تونس العودة إلى النظام السابق لعهد المراديين ممهدا الطريق أمام حسين بن علي للجلوس على العرش وتأسيس الدولة الحسينية.

الكرة الآن انتقلت إلى ملعب المؤسسات الدستورية، فسواء أشاركت الأحزاب في الانتخابات أم قاطعتها لم يعد أمامها إلا انتظار تلك اللحظة التي تفتح على أفق مجهول، لإجبار المؤسسات على تأطير حالة الفراغ وتأمين العودة إلى الشرعية، وفي هذا السياق تمثل المسيرة التي دعت إليها الشبكة التونسية للحقوق والحريات عشية انطلاق الحملة الانتخابية اختبارا جديا للقوة، يعيد الاعتبار إلى المجتمع المدني والأجسام الوسيطة التي وقع إبطال مفعولها لفترة طويلة تحت طائلة الاتهامات الدائمة بالعمالة والتواطؤ مع الأجنبي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات