الدولة التونسيّة -ولا أخصّ هنا الحكومة وحدها، إذ لرئيس الجمهوريّة وللبرلمان إمكانيّة التدخّل بوجه من الوجوه- قرّرت منذ شهر جوان 2020 التّخلّي عن سياسة الحرب على الكورونا بتطويقها وبكسر سلسلة العدوى، في ظلّ عدم وجود حلول علاجيّة، وفي ظلّ اهتراء البنية التحتيّة الصحيّة وعدم استعدادها لاستقبال بضعة مئات من المرضى ناهيك حينما يصبح تعداد هؤلاء بالآلاف. قرّرت الدولة التخلّي عن الحرب في مواجهة هذا الخطر الدّاهم، واعتماد سياسة "التعايش" مع الوباء، واتخاذ بعض الاجراءات المضحكة بين الحين والآخر، مواكبة منها لصعود ونزول مؤشرات "بورصة الفيروس".
وتبريرا لهذا التخلّي عن المعركة، وقع استعمال خطاب شعبوي مفاده أنّ "النّاس باش يموتوا بالشرّ"، وأنّ "اقتصاد البلاد لا يسمح باتّخاذ قرارات صارمة" وحتّى شبة القرارات التي يقع اتخاذها في نسق يشبه نسق حركو الأكورديون، يصاحب تطبيقها على أرض الواقع الكثير من التهاون من قبل أجهزة الدولة نفسها قبل المواطنين. كيف لقرارات متردّدة، وغير مقنعة أن يقع احترامها من قبل النّاس. الأمر لا علاقة له بما يسمّى على سبيل الانشاء ب"الوعي الجماعي" أو ب"الوعي المواطني". في تونس، وفي كلّ بقاع الأرض ما لم تكن القرارات (أيّة قرارات) واضحة ودقيقة وملزمة للجميع دون استثناء (ومشكلتنا في هذه البلاد كثرة الاستثناءات)، لا يمكن فرضها.
ولذلك فضح وباء الكوفيد-19 كلّ الأمراض الأخرى التي تعاني منها بلادنا من فساد مالي وإداري ومن سقوط الدّولة تحت وطئة لوبيّات القطاع الخاصّ، وتحت وطئة مصالح "دولة الحماية". ويتجلّى هذا في قرارات غلق المؤسسات التعليمية مثلا، وكذلك الحدود.
لو كان أمر الغلق متعلّق فقط بالطبقة الوسطى وبضعاف الحال، لما توانت الدولة التونسيّة في اتخاذ أشدّ القرارات جورا وتعسّفا ولكنّ الأمر يتعلّق بعيون "كاترين"!
أكثر من عشرة آلاف تونسيّة وتونسيّ أُزهقت أرواحهم خلال عشرة أشهر فقط... ممّا يجعل بلادنا اليوم "تحقّق" أعلى نسب الوفيات في العالم، بعد أن كانت خلال الأربعة أشهر الأولى نموذجا عالميّا في تطويق العدوى.
كم فقدت تونس من مواطن خلال الحربين العالميتان الأولى والثانية، وخلال المرحلة الاستعمارية، وخلال انتفاضات وثورات "الدولة الحديثة"... دولة ال250 سرير انعاش. كم فقدت من مواطن في علاقة بتلك الأحداث التي امتدّت على مدى أكثر من قرن؟ لو قارنا لأصبنا بالغثيان!
10 آلاف نفس بشريّة خلال 10 أشهر تتحمّل مسؤوليتها الدوّلة التونسيّة برئيسها المهووس بالقانون وبالتقنين وبالكلام... لا شيء غير الكلام وب"الفُقهي" المزخرف... وبحكومتها التعيسة غير القادرة حتّى على التعبير المقنع خلال ندوة صحفية... وببرلمانها وما يحتويه من أشلاء أحزاب أقرب منه إلى وكر مجانين.
لك الله يا بلادي…