السياسة سياستان: السياسة في شكلها اليومي المبتذل، القائم على الحسابات الصغيرة، جمعا وقسمة وطرحا... والقائمة أيضا على تحالفات هشّة تعقد في الصباح لتُفَكّ في المساء... ساسة هذا النوع من السياسة قضّوا فترات، تطول وتقصر، في دهاليز البيروقراطية الحزبيّة المقيتة حتّى تشكّلّت عقولهم وألسنتهم وكذلك هيئاتهم وأشكالهم على شاكلة ما تقتضيه ممارسة هذا الصنف من السياسة. جعلوا لهذه الأخيرة لغة وتمتمات وطقوس تجعل منهم حرّاسا أمناء لمعبدها الذي لا يدخله غير الرّاسخين في هذه الممارسة... جعلوا لها قاموسا يُشَبِّه الأمور للناس ك“النوفلانغ“في رواية جورج أروال الاستشرافيّة، ”1984“.
ومن أعتى مصطلحات هذا القاموس وأشدّها دمارا:” التكتيك “وهو فنّ المناورة الذي يأتي في العادة، خدمة لتحقيق الأهداف الكبرى، أي الاستراتيجيا. ولكن في إطار هذا الصنف من السياسة ولدى هذه الفئة من السّاسة يطغى التكتيك ليصبح هو الأصل والاستراتيجيا هي الفرع... يضمحلّ عندها الفرع ويتلاشى شيئا فشيئا، ليتحوّل التكتيك إلى مبتدأ وخبر... يصبح التكتيك هو الأوّل والآخر... ليس قبله وليس بعده أيّ شيء…
أحزاب هذا الصنف من السّاسة ليست هياكلا منتجة للمعنى عموما وللمعنى السياسي خاصّة، بل هي” ماكينات“تشتغل لغاية واحدة: الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية القادمة... وسمة هذه الاستحقاقات الانتخابية أنّها دائمة القدوم، ولا تتوقف عجلتها عن الدوران... ممّا” يجبر“الأحزاب/الماكينات على الدوران في فلكها من دون هوادة كما هو الحال لتشارلي تشابلين وهو في الورشة في شريط” العصور الحديثة“…
كيف لمثل هذه الأحزاب أن تفكّر بتروٍّ؟ كيف لها أن تهضم الواقع ومحيطها وتفهمه؟ كيف لها أن تنظر إلى الأفق البعيد وقد ضعف نظرها من شدّة عتمة دهاليز البيروقراطية الحزبية، ومن كثرة تركيزها على استحقاقات انتخابية قادمة بعد سنتين أو ثلاث في أحسن الحالات؟
ومع هذا فهي مطالَبَة بإقناع النّاخب بجدوى انتخابها دون غيرها... فالنّاخب هو رأس مالها ، والحصول على صوته الثمين هو مبلغ همّها... تلجأ عندها إلى التأثير عليه... أو بالأحرى على ”لا وعيه“ بالبهرجة الانتخابية... أو ما تسمّيه ب“الحملات الانتخابيّة“، وهي لدى هذا الصنف من السّاسة نوعا من ”الماركيتينغ“ الانتخابي... تستدعي فيه شركات مختصّة في التسويق للبضائع... كلّ أنواع البضائع... وتلجأ للشعارات والومضات الاشهاريّة... وهذا ما يكلّفها مئات بل آلاف الملايين ممّا يسمّى ب“المال السياسي“... وللحصول على المال السياسي لا بدّ من دفع الثمن السيّاسي... وهذا ما يجعل هذا الصنف من الساسة في ارتهان سياسي دائم للمموّلين...
تُوَزَّع خلال الحملات الانتخابية، وبنفس الروح الاشهاريّة، ما يسمّى” برامجا“... وهي في الحقيقة ترسانة من الوعود البرّاقة كبريق الورق الرفيع الحامل لتلك الوعود... يستهلكها الأتباع والمارّة كما يستهلكون كلّ الومضات الاشهاريّة الموسميّة... والانتخابات تحوّلت على كلّ حال إلى موسم من تلك المواسم... ولذلك تراهن الأحزاب على” لا وعي“الناخب أكثر ممّا تراهن على وعيه...
في ظلّ هذا النسق الاستهلاكي العام تغيب الرؤى البعيدة... وتتحوّل كلّ المؤسسات النابعة والمعبّرة عن” إرادة الشعب“... إلى مؤسّسات دائمة لتصريف الأعمال... ولا شيء يحدث بعد ضوضاء الحملات الانتخابية... ولا جديد يحدث تحت الشمس…
قديما سمّى آباؤنا وأجدادنا مثل هذه السياسة بال“بوليتيك “وهو تعريب لكلمة Politique، ثمّ أعطوها معنى آخر مرادفه النّفاق... والنفاق هو” الدرك الأسفل “في التعامل مع النّاس…
هذه هي السياسة التي نرفضها... والتي حاربناها ونحاربها اليوم وغدٍ…