فجأة, دوّى انفجار مزعزع, عمّ صداه البقعة بأكملها, فأخمد ما كان ينبعث من المجموعات المتناثرة من أصوات وقهقهات, محدثا فيها التفاتة ميكانيكيّة نحو مصدر الصّوت, مصحوبة لدى البعض بارتجافة فزع.
فلقد أعطى "سِيد أَحْمد" إشارة الإنطلاق لفرقته النُّحاسيّة, فكانت "النّوتة" الأولى قويّة بحجم أهميّة المناسبة. كان "سيد أحمد" يحرّك يديه بعصبيّة المايسترو, وقد انصبّت أنظار كلّ العازفين عليهما, ولكنّه كان يستعمل بالإضافة إلى يديه كلّ جسده, حتّى يخال للنّاظر إليه أنّ كلّ عضو فيه موجّه إلى آلة بعينها. فتراه يضرب برجله الأرض لتوجيه الطبل, ويرفع حاجبيه ليعطي إشارة الإنطلاق للكلارينات, ويبدي أسنانه لإصطحاب "تشتشة" الصّحون النّحاسيّة, وينفخ حنكيه مقلّداً للطُّرُنْبُونْ... لو توقّف "سيد أحمد" عن الحركة لأنفرط عقد النّوتات, ولتخبّط العازفون خبط عشواء…
كلّ من يعرف "سيد أحمد" يُقرّ بأنّ شخصيّته غريبة الأطوار, تسبح في هالة من الأسرار. فلقد كرّس حياته بكلّ تفانٍ وإخلاص, وبدون مقابل لتعليم الموسيقى, كما تلقاها عن أستاذه الإيطالي, بطريقة تغلب عليها العصاميّة المدعومة برهافة الحسّ. ورغم فتحه لبيته لكلّ شباب المدينة الرّاغبين في تعلّم العزف, فإنّه كان صارما لا يقبل التهاون ولا يقبل المزاح؛ وسرعان ما يشتطّ غضبا ليطلق سيلا جرّارا من السباب الذي لا يخلو من التوبيخ الأبوي, ويلعن العصر الّذي صار الشباب فيه لا يفقهون شيئا عن الحياة ولا يهتمّون بما ينفع النّاس. كلّ ذلك وسط نوبات من الضّحك المكتوم لدى العازفين.
وكثيرا ما يستشهد "سيد أحمد" بأستاذه وشيخه في الموسيقى "الأب ريتزو"، وهو راهب إيطالي علّمه الموسيقى وأسرارها على الطريقة التقليديّة –كما كان يحلو للتّلميذ التّأكيد عليه- فصار مفتخرا بما ورثه من علم, حامدا لجميل ذلك الرّاهب, مقدّسا له كتقديس المريد لشيخه. وقد يبلغ به الأمر أحيانا، وبخاصّة عندما يُسأل عن رأيه في أحد الفنّانين الأحياء أو الموسيقيّين من ذوي الشهرة, أقصى درجات التّعصّب, فتتحوّل عيناه إلى جمرتين متوقّدتين، يتطاير منهما الشّرر, وتتدافع الألفاظ النّابية, ويعوجّ فمه, زيادة منه في التّهكّم عند ذكره لأسماء "أدعياء الفن":
- "وتسمّون هذا موسيقى؟... قالوا زِينِي عاملْ حالهْ مالا لا!" ثمّ مفاجأ أحد العازفين ممن لم يسمع في حياته بموزار ولا ببتهوفن ولا بالأب ريتزو بالسؤال: "أين هذا من خامسة بيتهوفن؟
- معك حقّ سيد أحمد... والله معك ح…
- ماذا؟ معك حقّ سيد أحمد؟ هذا ما قدرت على قوله؟ ثمّ متوجّها للجميع كمن ينعى أباه, باحثا فيمن حوله عن العزاء دون جدوى, "ناري على شباب اليوم!"
وممّا يزيد من شخصيّة "سيد أحمد" غرابة وغموضا, أنّ جل من عرفوه من قريب أو من بعيد, أو حتّى ممن عزفوا لسنوات عديدة ضمن فرقته النّحاسيّة, ليسو بقادرين على تحديد دقيق وقاطع لآلته الموسيقيّة المفضّلة... "على أية آلة تعلّم سيد أحمد العزف؟" سؤال أرّق الجميع. فلقد كان يملك كلّ الآلات, ويعلّم العزف عليها جميعا: من النّحاسيّة إلى الطبول بأصنافها, مرورا بالوتريّات... كان "سيد أحمد" يُجلس التلميذ المبتدئ أمامه, لا يلمس آلته, لا يعدّلها حتّى, بل تراه يُملي نوتات المقطع الموسيقيّ شفهيا, ويشير بإصبعه إلى مواضع النوتات، ويتسلّق به سلّم علم الموسيقى عبر الأسابيع فتراه تعلّم تعديل آلته بعد أن حفظ النوتات وعرف عن ظهر قلب نغماتها ومواضعها, وهكذا.
- "دو دو... دو دو
مي فا مي ري دو.
دو دو... دو دو
مي فا مي ري, عاود!"
وفي المرّة الثّانية صارخا بملئ شدقيه :
- برافو… القفلة… بيانيسّيمو1
لا يعرف الملل لمملكة "سيد أحمد" الموسيقيّة مدخلا. فمن المواضيع المفضّلة لديه, بعد الموسيقى, السياسة… أو بالأحرى رجالها. فهم بالإضافة إلى الفنّانين الجدد, يشكّلون هدفه المفضّل. لا يحبّ "سيد أحمد" بل يمقت إلى درجة تدعو إلى الحيرة والإنبهار بهذه الشجاعة المفرطة, رجال السيّاسة الأحياء, فله فيهم أحكاما صارمة، قاطعة، لا أخذ ولا رد فيها. ربما كانت ثمرة لانتمائه لفئة المهزومين: فهو من جهة والدته سليل الأتراك العثمانيين. ولذلك كانت نظرته تجاه من ساسوا البلاد بعد استقلالها نظرة أرستقراطية مزيجها الحقد والإزدراء.
- "إنهم مجرد حفنة من الحَفْتَريشْ, الزُّوِفّرَهْ, والهملْ… كانوا بالأمس القريب رعاة ماعز هزيلة, بالبوادي الّتي لم تعرف أبدا ماء الحنفيّات ولا الكهرباء, وباتت بين عشيّة وضحاها تتصرّف في رقاب الخلق وأموالها…" ثمّ سائلا أحد العازفين:
- أليس كذلك؟
- ما… ماذا… مم…
- ماذا؟ إييييه!... يا حسرة على أيّام سيدي المنصف, وسيدي محمّد الأمين, كانت لهم أبّهة وهيلمان…
- يا حسرة…
- هيّا… أعيدوا ورائي… آلونيسوني 2
"دو دو… دو دو
مي فا مي ري دو.
دو دو… دو دو
مي فا مي ري, عاود!"
***
توقّف الموكب الوزاري عند بداية الطريق، ونزل الوزير من سيّارة فخمة سوداء, وسرعان ما أحيط به من قبل المحتفين من الرّسميّين, وقد خلعوا عنهم جلابيب الهيبة والوقار, فباتوا يستجدون مصافحة, أو بسمة, أو مجرّد التفاتة من الوزير. وأحيطت هذه الحلقة بحزام واقٍ من رجال الأمن, الّذين أحيطوا بدورهم بمجموعة أقلّ تجانس, تضمّ الإطارات الحزبيّة والكشفيّة والنسّائيّة وأعضاء النّادي الثقافي وإمام الجامع والمؤذن. والتفّ بهذه المجموعة من بقي من النّاس. وحدها الخرفان والماعز وحارسها الهزيل، اللاهث استمرت في وضعها اللامبالي.
بعد تبادل عبارات التسليم والترحيب, تدحرجت الكوكبة ذات الدوائر المتّحدة المركز نحو المنصّة الشرفية. واختلطت الأصوات بالتّصفيق وبالموسيقى النّحاسيّة وبالأنغام الفولكلوريّة في رهان موضوعه: من يعلو صوته فوق صوت الآخرين؟ وتقدّمتا طفلتين في زيّين تقليديين, تحمل إحداهما باقة زهور, وتحمل الأخرى وسادة من القطيفة الحمراء وُضع فوقها بدقّة صارمة مقصّ فضّي لامع.
بعد أن قبّل الوزير الطفلتان, وبعد أن ربّت على خدّيهما, تناول المقصّ واقتطع من شريط التّدشين, الأحمر, قطعة وُضعت للتّوّ, وبقدْسيّة تامّة, على الوسادة الحمراء, تخليدا للذّكرى. احتدّ التّصفيق آنذاك، وتكلّم رئيس البلديّة في المايكروفون, وقد ارتسمت على وجهه، كما على وجوه الحاضرين ابتسامة يمتزج فيها الرضا بالسّذاجة: "سيّدي الوزير, باسمي وباسم أهالي مدينة الزّاهرة, أتقدّم لحظرتكم بأجمل عبارات الترحيب والشكر على لفتتكم هذه, الكريمة لبلديّتنا, والّتي إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على العناية الفائقة الّتي نُحظى بها نحن, سكّان مدينة الزّاهرة, لدى حكومة سيادتكم. كما نغتنم هذه الفرصة, لنتوجّه عبركم, بفائق التحيّة والإحترام إلى فخامة رئيس الدّولة, المجاهد الأكبر, الحبيب بورقيبة". وهنا اشتدّ التّصفيق المصحوب بصراخ الأطفال, وكانت توجّههم, كالسنفونيّة, أيادي المشرفين عليهم من الإطارات الحزبيّة: "يحيا… بورقيبا… يحيا بورقيبا!"
ثمّ سُلم المايكروفون إلى الضّيف الشرفي, فتحمحم بكلّ مهنيّة, تجلية لحنجرته, وقال وقد عمّ الصمت جميع الأرجاء, وكأنّ الحاضرين على رؤوسهم الطير: " بإسم الله الرحمان الرّحيم, أيّها المواطنون أيّتها المواطنات, يسعدني أن أكون حاضرا بينكم اليوم، لأقوم بتدشين هذه الدّفعة من المساكن الإجتماعيّة, والّتي تُجسّد حرص سيادة رئيس الدّولة (تصفيق وهتاف من جديد) على تنفيذ مخطّطنا الخماسي هذا, والّذي يشمل القضاء على الأكواخ وتمكين كلّ التونسييّن من مساكن لائقة تحفظ لهم كرامتهم (تصفيق). كما أغتنم هذه الفرصة لكي أزفّ لكم…".
بدأت الشّمس تميل نحو الغروب حينما انتهت مراسم التّدشين وتسليم العقود والمفاتيح. وتدحرجت الكوكبة ذات الدّوائر المتّحدة المركز نحو مربض السيّارات, وسط هالة صاخبة من الهتاف والتّصفيق والزغاريد. وغاب موكب الوزير, ثمّ تلاه موكب أعيان البلدة, فالجوقة النّحاسيّة والفولكلور, فحملة الأعلام واللافتات. وشرع عمّال البلديّة في فكّ ألواح المنصّة, في حين غادر قطيع الخرفان والماعز, يتبعه الكلب الهزيل، وهو يلهث. ولم يبقى في المكان غير أهالي الحيّ الجديد, لا يقوون على مفارقة ملكهم… لكم ودّوا لو يبيتوا ليلتهم تلك في مساكنهم الجديدة, فالعقود معهم والمفاتيح في أيديهم. ولكن التّعاليم البلديّة أتت واضحة وصارمة: عليهم الإنتظار بضعة أسابيع أخرى حتّى يتسنّى إتمام تهيئة البيوت من الدّاخل, وربطها بشبكة الماء والكهرباء.
***
مرّت أسابيع زُجّ خلالها بكبير الوزراء في السّجن بتهمة التّآمر, واختفى اسمه من "الحيّ الشعبي" مع لوحة التّدشين الرخامية, وأعلن رسميّا عن إنتهاء التجربة الإشتراكية بالبلاد. وأُذن للسكّان الجدد الإلتحاق ببيوتهم, بعد أن أضيف بند جديد على العقود, تُمدّد بمقتضاه فترة الدفع إلى أجل سيُحدّد فيما بعد, عندما تُحدد قيمة الأرض من قبل ملاّكها الجدد. وأُعلن أيضا بأنّ مشروع "حفظ كرامة المواطن", قد وقعت إعادة النّظر فيه بما تقتضيه متطلّبات السّوق, وبما تُحتّمه المصلحة العليا للوطن.
1pianissimo
2A l’unisson