المقامة الكورونيّة وعنوانها "وصف افريقيّة المصونة بين انتخابات المقرونة ووباء الكورونة"

دعانا أبو المقعار إلى مجلسه بعد طول انقطاع، فوجدناه على غير عادته هزيل الجسم وفي وجهه بعض امتقاع¹ . عجبنا لحاله وسألناه عن سرّ انعزاله، فلقد طالت على غير المعتاد غيبته، وتغيّرت من بعد ظهوره هيئته. فسألناه: "أين كنت يا أبا المقعار وقد أسدل الوباء ستاره على كلّ الأمصار، وأضحى شعار المرحلة "مَانِي عَمَّة حَدّْ، وشِدّْ الدَّار"؟ وقد خبرناك رجل تكثر من التّجوال ومن الأسفار، فداخلنا الخوف عليك، وخشينا أن تصيبك بعض الأضرار!

فسكت برهة طويلة كالدهر، ثمّ تنهّد تنهيدة من تذوّق طعم القهر، وقال:

أدركني العام التّاسع لثورة الكرامة والحرّية وأنا في ربوع افريقيّة... فوجدت فيها جلَبَة وسِبابا بعثا في نفسي حيرة وارتيابا. سألت من حولي: ما الخَطْب؟ فقيل لي: إنّه عام انتخاب وتلك معركة أحزاب... وقد غابت عنها البرامج، ونصب لصيد العصفور النادر الرامج² وكثرت بين الأحزاب السياحة، وعمّ بينها الانشقاق والتّدامج، وأصبح شعب افريقية كالقطيع الهامج³ لا يرى فرقا بين الصدوق الشريف وبين الفاسد الخامج⁴ . ثمّ إنّ الصراع انحسر بين صاحب الزيت والمقرونة وصاحب البديع والكلمة الموزونة، واستدعي لمعركة منصب الرئيس الجديدِ، أبو الطيب المتنبي وكافورٍ الاخشيدي، واختار الشعب بعد التفكير والاستساغة، صفّ الحكمة والبلاغة، خشية أن تُحكم افريقية من قِبل أولاد مفيدة وأبناء المَرَاغة⁵ ، وهم في هذه الديار عُصْبة استحوذتْ على خيرات البلاد بلا سابق جُهد ولا معلوم نَبَاغَة، والتفّتْ في الانتخابات حولَ مرشّحٍ مُضَّاغَة⁶ .

وانتخِب الرئيس وأُنيط إلى أهل البرلمان دور تشكيل الحكومة، فاندلعت بين هؤلاء سجالات وخصومة، وعلا فوق الأصوات جميعَها نهيق حمار ونعيق بومة. ومكثوا على ذاك الحال حتّى كادت تنتهي الآجال، وخشي نواب البرلمان على كراسيهم الوثيرة من سوء المآلْ، فقبلوا بعد ان اشتدّ عليهم التنبير والنّخيس بمبدأ تحكيم الرئيس، وكانت الأوضاع في البلاد "حيص بيص". وخلفت خلف حكومة النخلة والحمامة حكومة سليل زرقاء اليمامة. وما أن تسلّمت الحكومة الجديدة المقاليد، وأدّت القسم كما تقتضيه التقاليد، وفرح الشعب كعادته بمولد عهد جديد، حتّى هدَّ على البلاد وباء الكوفيد!

وهنا قاطعْنا أبا المقعار وبادرناه بالسؤال:

- "هلاّ حدّثتنا عن أصل الداء ومنبع الوباء؟"

فأجابنا بوَشوشة الحَذَرْ، وبما يقتضيه الحَظْرْ:

يُحكى أنّ صينيا من أهل يأجوج ومأجوج ويدعى اليوهاني⁷ بن قفراش، اشتهر بين قومه بأنّه فرفاش وبرباش، اعتزل الناس واستقرّ بالأحراش، وصادف أن التقى ذات يوم صديقا له يدعى "قرينط الشلواش"، فدعاه هذا الأخير للغداء، وقدّم له طعاما يقال له عندهم "شربة الخُفّاش". وما أن احتساها حتى أصيب بالحمّى وبالصداع وبالارتعاش، وصاحب ذلك كحّة وبحّة وضعف صحّة وبالمفاصل انكماش، وطلب الإسعاف فقيل له قولة اشتهر بها أهل افريقية: "ارقد توّا ليل، غدوة يا من عاش⁸ "! ومن الغد تعكّر حاله فوضع للفور بقسم الإنعاش. وكان ذلك منطلق انتشار فيروس الكوفيد الوشواش⁹ .

هنا، قلنا لأبي المقعار:

- "أنت رجل لك خبرة بالعلوم ملمّ بقديمها وبما هو جديد، فزدنا زاد الله في زادك من القول الموجز المفيد، وأنرنا بما غاب عنّا وعلمتَهُ، بخصوص فيروس الكوفيد".

فأجابنا بنبرة الشيخ أمام المرُيدْ، من بعد بسملة وحوقلة وتنهيد:

الحمد لله من قبل ومن بعد على نعمة العقل الرشيد، وعلى منّة القول السديد:

أصل عبارة الكوفيد في اللغة هو إدغام بين كلمتين، أولاهما "كوّة" وهي الثَلْمَةٌ، والفَتْحَةٌ، والنافذة، والخَرْقُ حتّى وإن كان صغيرا زهيدْ¹⁰ . وثانيهما مِنْ "وَفَدَ" أي وصل وأتى وقدم من مكان بعيدْ! فيكون بذلك متسلّلا إلى الأجسادْ، بعد أن قدم من الأبعادْ.

أمَّا في الاصطلاح فهو فيروس مستحدث جديد، وقيل أنّه لهماڨٌ بليد، ركيك، ثُمَّ عنيدْ، يفضّل أهل اليورو والدولار، على أصحاب الدِّرهم والدينارْ. ومن صفاته أنّه يتصنّع الغباء، فيرقد حلفاء حتّى يُستأمن جانبه، فإذا به كالأفعى الرقطاءْ!

ومن علامات الكوفيدْ، عند أهل افريقيّة الصناديدْ، غياب الطحين -على وفرته في العادة- وانقطاع السميدْ، وتفاقم الاحتكار والكلّ يبحث عن كيف يستزيد ويستفيدْ. ورغم التهديدات العنيفة المسمامة من قِبَل الحكومة القوية العادلة المقدامة، فقد ازدهر الاتّجار حتّى في الجالِ وفي الكُمامة، كما ازدهر الشَّعْر بسبب غلق محلاّت الحجامة¹¹ ، واستوى في الغوفة¹² الرجال وصاحبات الرشاقة والجمال والنعومة والفخامة، حتّى أنّ الرجل بات ينادي زوجته: يا أخَ العروبة والنّشامة¹³ !

وما أن سمعنا هذا القول حتّى ربطنا العمامة، ولبسنا الكمامة، وحثثنا الخطى نحو مكان الحظرِ والإقامة، راجين من الله حسن الختام والسلامة.

1- امْتُقِعَ لونُه [بالبناءِ للمجهول] تغيَّر من حُزْنٍ أَو فزع أَو مرض. المعجم الوسيط.

2- الرَّامِجُ: المِلْواحُ الذي يصاد به الصُّقُور ونحوها من جوارح الطير، اسم كالغارِب. المعجم الوسيط.

3- الهامجُ: المتروك بلا نظام يموج بعضه في بعض كالغنم بلا راعٍ والعسكر بلا قائد.

4- من فعل خَمِج دِينُهُ وَخُلُقُهُ: أي فَسَدَ

5- المَرَاغَةُ: الأَتانُ.

6-المُضَّاغةُ: الأحمق.

7- نسبة إلى مقاطعة يوهان وتقع في بلاد الصين.

8- "يا من عاش": عبارة تونسية تستعمل للتسويف والتّتليف.

9- الوشواش: السريع الخفيف.

10- زهيد هنا بمعنى ضئيل تافه.

11- الحجامة هنا بمعنى الحلاقة.

12- الغوفة هي كثافة شعر الرأس وغيره من مواضع الجسم.

13-القوّة والاباء