تحت شمس ربيعيّة ساطعة, انساب الطريق الجديد راسما خطّا محتشما, يتّصل أوّله بشارع معبّد قديم, وينتهي إلى لا شيء... حقول لا متناهية الامتداد وغير ذات زرع. فلقد خطّ هذا الدّرب على عجل, حتّى أنّ العمّال غادروا قبل موعد التّدشين بساعتين فقط, بعد أن فرشوا على الأرض بساطا من الحصى, حتّى تبدو على ما فعلوا سمات الطريق.
على الجهة اليمنى, لا شيء. أرض عراء, تناثرت فوقها بعض الخرفان والماعز, بقايا ريف بات يقاوم زحف المدينة بدون أمل في النّصر, وكلب لا يمكن تحديد سنّه, هزيل, قد ملّ ملاحقة القطيع, فصار لاهثا، لا مباليا بما حوله. على الجهة اليسرى, اصطفّت مجموعة من المنازل المتلاصقة؛ ستّة عشر بيتا، ينمّ بياضها النّاصع وزرقة نوافذها على حداثة عهدها. ثمانية منها متّجهة صوب الشّمال, ومثلها مستقبلة الجنوب.
"الحي الشعبي", ينتصب ببيوته ذات الطابق الواحد, بكلّ تواضع على أرض عراء في أطراف المدينة، كانت في ما مضى مزروعة عنبا وقمحا وفواكه أخرى لأحد كبار ملاّك الأراضي.
لم يكن هذا الحيّ يشبه شيئا موجودا ومألوفا ممّا أفرزته نماذج المعمارالمتعارفة؛ فلا هو بالحي العربي العريق, بأزقّته الملتوية وسقائف بيوته المفتوحة, ولا هو بالحي الحديث ذو الفلل الأوروبيّة ذوات
الحدائقه المرتّبة والنوافذ الكبيرة, لا... لا شيء من كلّ ذلك.
يخيل للناظر إليه عن بعد، وكأنه عمارة تمددت.
تقرر تشييد هذا الحي استعدادا لزيارة سيقوم بها كبير الوزراء في منتصف شهر مايو لسنة 1968
وجاء اليوم الموعود.
بدأ الناس يتقاطرون على المكان في شكل مجموعات صغيرة مكوّنة من رجال ونساء معظمهم في العقد الثّالث من العمر, وأطفال دون العاشرة, وبعض الشّيوخ والعجائز عليهم بقايا سمات ريف استؤصلوا منه ولم يغادرهم. ارتدى الجميع أبهى ما جادت به إمكانياته المحدودة من الحلل. فاللّقاء مع الوزير, وهو أمر جلل وخارق للعادة. فلقد عرفوه حتّى السّاعة صورة جامدة على صفحات الجرائد, وصوت ونبرة على موجات الأثير؛ وها هم اليوم في حظرته, ومن يدري لعلّه يصافح بعضهم, أو يمسح على رأس طفل من أطفالهم. وبمجرّد مرور هذه الصّورة في مخيّلتهم, تتسارع نبضات القلوب وترتسم النّشوة على الشفاه, وتشرق الوجوه النّحيفة الّتي طالما لفحتها شمس الحظائر والحقول والأرصفة.
ثمّ تلى هذه المجموعة, حشد آخر يختلف عنها كلّيا في الهيئة والهندام. بطون ضخمة, وجوه مستديرة, منتفخة, لامعة. رؤوس غلب عليها الصّلع أو الشّعر الأبيض. واختفت الأعين خلف النّظارات الشمسيّة السّوداء أو وراء النّظارات الطّبيّة. بعضهم كان يرتدي الجبّة التّقليديّة والبعض الآخر البدلات الأوروبيّة؛ وقلّة, يبدو أنّها لم تتسامح قيد أنملة مع مستلزمات البروتوكول, فزادت على كلّ ما سبق ربطة عنق لتبلغ منتهى درجات الأناقة.
كانت لهذه المجموعة مشيتها المميّزة, وكأنّها تريد أن ترسم الحدّ الفاصل بينها وبين سابقتها, وتؤكّد ما لها من غنى وسلطان لا تزال حديثة عهد بهما. فبكلّ خيلاء يمشي الواحد منهم مبرزا صدره, وخاصّة بطنه, لا يكاد يرى عائقا أمامه. وأيّ عائق قد تحدّثه نفسه بالتّصدّي لهذه البطون العظيمة, ولهذه الصّدور البارزة, ولهذه الأرجل الثّقيلة, ولهذه الأبّهة والجلال؟
أيّ عائق سيصمد أمام قطيع من الفيَلة كهذا؟
هؤلاء هم أعيان البلدة ووجهاءها.
فها هو رئيس البلديّة ببدلة رماديّة مفتوحة, تحتها قميص ناصع البياض, بدت أزراره وكأنّها تئنّ من وطأة ضغط البطن عليها. فلقد كان السّيد حسين جاب الله, قبل سنة أو سنتان على الأكثر, أنحف ممّا هو عليه الآن؛ حين قدم من إحدى قرى السّاحل كمجرّد معلّم بمدرسة ابتدائيّة, ليصبح بفضل نشاطه وحيويّته داخل هياكل الحزب, وكذلك بفضل معارفه وأصدقائه من أبناء قريته رئيسا للشّعبة الدستوريّة, فعضوا بالمجلس البلدي, فرئيسا للبلديّة. والحقيقة أنّ الذي ساعده في هذا الصّعود السّريع في الدّرجات, طموحه الجامح, وأريحيّته مع النّاس, وسلاسة لسانه, وقدرة خارقة على المراوغة والتّزلّف عند من لهم نفوذ وكلمة مسموعة. كان من حين لآخر يرفع نظّاراته الشّمسيّة السوداء, ليمسح بمنديل أبيض وجهه ثمّ جبينه فرقبته من حبّات العرق, في حركة ميكانيكيّة ما فتئت تتسارع كلّما أقترب موعد حلول الموكب الوزاري. ورغم ذلك فإنّه كان يحاول إبداء أكثر قدر ممكن من الهدوء والأريحيّة. فلقد ارتسمت على وجهه المستدير, المنتفخ الوجنتان ابتسامة متواصلة كان يبذلها بسخاء مبالغ فيه على من حوله. وكان هؤلاء يكافئونه, في المقابل, على هذه البسمات السخيّة بعبارات الثّناء, والولاء, والتّهنئة على نجاح المشاريع؛ وبالذّات مشروع المساكن الشّعبيّة.
ويبرز من خلال هذه المجموعة أيضا, رئيس الشّعبة الّذي كان يشغل في نفس الوقت منصب نائب رئيس البلديّة المكلّف بالشباب والرّياضة. وهو من الأناقة بحيث لا يمكن تجاهل وجوده. فقد ارتدى قميصا أبيضا, مقطّع اليدين, وسروالا فضفاضا, من نفس اللّون, وكذلك الحذاء. حتّى شعره المسدل بدقّة صارمة إلى الوراء, لم يكن ليتميّز عن لون الملابس لولا أن اختلط الأبيض فيه بما خلّفته سني الشباب من سواد. هو الآخر كان يتّقي أشعّة الشمس بنظّارات داكنة. حركاته وكذلك طريقة كلامه فيهما اتّزان وأناقة ينفلت منهما بين الفينة والأخرى قدر من التّصنّع, و بعض أنوثة سرعان ما تغرقها قهقهاته وقهقهات من حوله. كان جلال الدّين العريف شخصيّة مثيرة للتّساؤلات المشحونة بالإشاعات المكتومة. فبالرّغم من تقدّم سنّه, فإنّه كان في عزوف تامّ عن الزّواج, ولم تكن له علاقات تذكر بالجنس اللّطيف. كان يعيش بمفرده في "فيلاّ" على شاطئ البحر, يترددّ على الألسن أنّه اقتناها بثمن الرّمال من عجوز فرنسيّة غادرت, بعد وفاة زوجها, إلى واحدة من دور العجّز في جنوب فرنسا, على أن يرسل إليها مبلغا شهريّا إلى حين وفاتها. لا أحد يعرف ما كان يجري داخل "فيلّته" الغارقة في غابة كثيفة من الأشجار والأعشاب التي غذّتها سنوات طويلة من الإهمال. ويبدو أنّ نشاطاته المختلفة قد التهمت جلّ وقته. تراه يغادر اجتماعا للشعبة, ليلتحق بآخر في إحدى فرق الكشّافة, وها هو في ساعة متأخّرة من المساء يراقب بنظرات حالمة تمارين فريق كرة السّلّة. لا تبدو عليه علامات الكلل والإرهاق حتّى وهو منغمس، على أنغام "الأطلال", في لعبة ورق "رامي" طويلة المدى, في مقهى الشباب.
وفي خضمّ هذه المجموعة الثّانية من المحتفين بالوزير الزّائر, وقفت سيّدتان جاوزتا الأربعين من العمر. إحداهما رئيسة فرع "الإتّحاد النّسائي", وعضو بالمجلس البلدي, وبطبيعة الحال, ناشطة مرموقة في الشعبة الدستوريّة. من في البلدة لا يعرف مادام روضة النجّار؟ لقد كانت تقوم بدور مهمّ في توعية المرأة بعد أن استوعبت بقناعة صارمة كلّ أفكار المجاهد الأكبر, وقطعت على نفسها أن تكون حياتها الشخصيّة مختبرا لهذه الأفكار, فباتت مجسّدة لها في كلّ كبيرة وصغيرة... سرعان ما يتصاعد الدّم إلى وجهها, وتشتدّ نبراتها, وتكتسي عباراتها بالصّيغ الرّسميّة المستقاة – بدون أدنى عقد – من القاموس البورقيبي, حين يكون موضوع الحديث مشروعيْ "محو الأمّيّة" و"تحديد النّسل". فهذان المشروعان هما في نظرها, بمثابة طفليها. فبفخر واعتزاز مبالغ فيهما, تتحدّث عنهما مادام روضة النّجّار, مبرزة صدرها الممتلإ تأكيدا على دورها الرّيادي, وعلى ما توصّلت فيهما من نتائج, وكذلك على ما تطمح إليه منهما, على المدى البعيد من "رقيّ وتقدّم ولحاق بركب الدّول المتقدمة". وهاهي في هذا اليوم المشهود ترنو, حالمة, إلى النّاحية الّتي سيأتي منها الوزير, تدغدغها مشاعر النّشوة بالإهتمام الذي سيحضى به عملها لدى الوزير, بما يعنيه ذلك من فتح للأبواب, ومن صعود على سلّم الهياكل الحزبيّة والحكوميّة, ومكاسب أخرى, جانبيّة, ربّما هي الأهمّ.
وهذا سي محمّد البحري, مدير أكبر وأعرق مدرسة ابتدائيّة في البلدة. تميّز عن الجميع بضخامة جسمه؛ وحتّى الجبة القرمزيّة الفضفاضة, لم تكن كافية لإخفاء شيء من هذه الضخامة – وإن خفّفتها, في الأعين, إلى حدّ كبير. كان مدير المدرسة محلّ تقدير وخشية الجميع, صغارا وكبارا. إذ كثيرا ما يستشيط غضبا, لسبب أو لآخر, فتنهمر من بين شفتيه الغليظتان, ألفاظ نابية, في سيل جرّار من توبيخ وسبّ وشتم؛ ولكن دون أن تترك هذه الكلمات وقعا سيّئا عند من تُوجّه إليه, أو عند من يسمعها. فلقد كانت تندفع من فم سي محمّد البحري على نغمة أبويّة وإن قست؛ وكان للمعلّم آنذاك مكانة مرموقة بين النّاس, وكان بحكم وظيفته وجيها. ناهيك عن مدير المدرسة.
وهذا "عمّ حسن البرقادي", رئيس مركز الشّرطة بلباسه الرّسمي الرّمادي، وبقبّعته التي لا تطأ رأسه إلاّ في مثل هذه المناسبات الهامّة. كان يختلف على الجميع بحمرة وجهه وبياض شعره. أنْست وظيفته النّاس لقبه العائلي, فصار لا يُعرف بغير لقب "البرقادي", وعائلته لا تعرف إلاّ بدار "البرقادي". وهو من سكّان المدينة القدامى, وهذا ما جعل علاقته بالنّاس دمثة ومتميّزة بالطيبة. وقد تحدث المشاجرات بين الجار والجار، وبين الزوج والزوجة, ويصل الأمر إلى مركز الشّرطة, فتُحلّ الخلافات بتدخّل أبوي صارم من "عمّ حسن البرقادي". والحقيقة أنّه بحكم انتمائه للجيل الأول من شرطة ما بعد الإستقلال, فإنّه لم يكن من خرّيجي المدارس المختصّة, بل تمّ انتدابه كغيره من أبناء ذلك الجيل, لسدّ الفراغ الإداري الذي خلّفه رحيل الإستعمار. وتمّ الإنتداب على أساس امتلاك الرجل لحدّ أدنى من التعليم يمكنه من قراءة وكتابة المحاضر بلغة الضّاد. ولهذه الإعتبارات غلبت لدى "عمّ حسن البرقادي" في تعامله مع أهالي المدينة صبغة الإنسانيّة على صفة الشّرطي؛ إذ لم يكن لتُحدّثه نفسه – مثلا – بأن يستفيد من بدلته الرسميّة, ليفرض سلطة ما على النّاس تدرّ عليه ببعض ما يعينه على عسر نهاية الشهر لضعف الأجرة, بل كان حامدا لله, مكتفيا بالوجاهة وبالإسم كقيم رمزيّة, ثمنا لما كان يقوم به من واجب. إنّه بحق من "فُخّار زمان"! عبارة كان يحلو لأصدقائه مداعبته بها, ويقرّهم "عمّ حسن البرقادي" بابتسامة عريضة.
(يتبع)