ثالثا: لقد انتهت إحدى نسخ خطّة الاستئصال - الجدّ سريّة - بين أيدي القادة الإسلاميين، عندما كانت إحدى مفاخرهم، اختراقهم للسلطة وللحزب الحاكم.. ويمكننا تلخيص هذه الخطّة كالآتي: استئصال الظاهرة الإسلاميّة من الأساس، وذلك "بتجفيف منابعها"..
- أيّة صورة شاعريّة هذه!؟
- تجفيف المنابع هذا يأتي كتتويج لمجموعة من الإجراءات "القانونيّة" المصحوبة بموجة عارمة، تستهدف غسلا كاملا للذّهن الجمعي من كلّ "تلوّثات" الفكر والسّياسة والثّقافة والدّين والوعي والحسّ والجمال والتّعبير و… و… فتصبح هذه "التلوّثات" في ذاتها جريمة كما وصفها جورج أوروال في روايته "1984" بعبارة "جريمة التفكير"1 … بعبارة أوضح: إفراغ الذّهن الجمعي من كل قِوام؛ وللقيام بهذه الوظيفة لا يوجد في "السّوق" من هو أجدر ممّن رضع الحليب من بزّ التّجربة السوفيتية، ومن ترعرع في أحضان ثورة الصّين الثّقافيّة، ومن بلغ سنّ الرّشد في ظلال تجربة الخمير الحمر وتجربة أنور خوجه الألبانيّة…
فبالنّسبة للإجرآت "القانونيّة"، كقانون المساجد الذي حوّل هذه المؤسّسة المستقلّة نسبيّا إلى مجرّد مبنى حكومي تابع لإدارة الشّعائر الدّينيّة الملحقة بوزارة الدّاخليّة… فأصبحتْ هذه الأخيرة هي الّتي تعيّن الموظّفين فيه من الإمام الخطيب إلى المؤذّن مرورا بإمام الخَمْس.. وهي الّتي تُملي على هؤلاء الأئمّة الخطب الجمعيّة وغيرها من المواعظ والدّروس الإرشاديّة، بفواصلها ونقاطها.. ومن يدري فلرُبّما أملتْ عليهم أيضا ما يجب تلاوته أثناء الصّلاة من السّور والآيات القرآنيّة «وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينْ…» وبذلك أضحى المسجد أفضل مكان لقضاء قيلولة مريحة لو لم يتحوّل - والعياذ بالله- إلى وكر خطير يعجّ بكلّ أصناف المخبرين.. الدّاخل إليه، ممّن يقلّ عمره عن سنّ التّقاعد، مشبوهٌ مدان حتّى تَثبت براءته بالإقلاع والتّخلّي عن "هذه العادة السيّئة"… وياحبذا لو أرتاد بعض الحانات وذلك درءا منه للشبهات.. فيحصل عندها على عُذريّة مواطن العهد الجديد.. الصالح.
ثمّ يأتي قانون "الزيّ الطّائفي"2 والمقصود به الحجاب.. وهو قانون يعود إلى العهد القديم، عهد بورقيبة (سبتمبر 1981) وقع ردّ الاعتبار إليه - أعني القانون طبعا! فنُفّذ بصرامة وصلت إلى حدّ نزعه بالقوّة على قارعة الطّريق (القوّة تعني لدى الشّرطي التّونسي العنف الجسدي والاستعمال الغير محدود لألفاظ نابعة من قاموسيْ "ما تحت السُرّة" و"الرّبربة"3 ).. فالحجاب من منظور النّظام هو التّعبير المادي الملموس لأفكار الإسلاميّين. وهو أيضا نقيض توجه السلطة، والنّخب المتعاونة معها، "الحداثي". وهو أخيرا، "مظهرا مشينا لتدنّي كرامة المرأة تحت وطأة وتسلّط المجتمع الأبوي السّائر حتما إلى الزّوال"؛ فكان لابدّ من حجبه عن الأعين.
وأخيرا يأتي قانون الأحزاب الّذي بورك من الجميع - بما فيهم القيادات الإسلاميّة4 - وذلك أثناء "شهر العسل" السالف الذّكر. وهذا القانون يمنع من التّواجد العلني كلّ حزب يملك مرجعيّة دينيّة أو عرقيّة (والمقصود بالمنع التيّارات ذات المرجعية الإسلاميّة أو القوميّة العربيّة). وبهذا يصبح حزب السلطات الثلاث الحاكم، والخاضع لسلطان الرجل الواحد… يصبح هذا الحزب في نفس الوقت، الخصم والحكم في أمر من سواه من التيّارات والأحزاب، مهما عَظُم شأن بعضهم.. وبهذا أيضا، يغدو تشكيل أيّ تنظيم يتجاوز عدد أعضائه أصابع اليد الواحدة، جريمة يعاقب عليها القانون بتهمة "الانتماء إلى جمعيّة غير معترف بها، تستهدف الإطاحة بنظام الحكم وتقف وراءها جهات أجنبيّة".. ويصبح مجرّد منشور منها بمثابة "الثلب والمسّ من كرامة رئيس الدّولة وترويج أخبار زائفة"؛ ولا طائل من التّذكير بالأحكام الصّادرة في مثل هذه الحالات وما يسبقها من تعذيب وما يتبعها من تشريد وتجويع وترويع لعائلات بأسرها…
ولا بدّ من التّذكير بقانون آخر, كدت أنساه من شدّة تعوّدنا عليه؛ إذ لم يفتأ هذا القانون ساري المفعول، كالسّيف المسلول، رغم تواتر العهود وتدافق الآباء والجدود. فلقد أفرز قانون الصحافة منشورات متشابهة في رداءتها، متوافقة رغم اختلاف عناوينها، لا فرق بين "صباحها" و"شروقها"، ولا بلاغة في "بيانها"، ولا شغب ولا إضرابات في "شعبها"، ولا ماهية "لحريّتها"، ولو لم أخشى على قارئي من الضجرْ، لسردتُ من مثل هذا، قائمة لا يرى نهايتها البصرْ.. والخلاصة أنّ هذه المنشورات ومحتوياتها لا تصلح حتّى كورق مراحيض؛ فلجسد الإنسان حدّ أدنى من الحرمة لا يقبل التدنيس.. وللتّذكير أقول أنّ آخر المنشورات الصحفيّة للتيّار الإسلامي، قبل المنع النّهائي، يعود إلى مطلع الثّمانينات… أي ما يناهز الربع قرن!
1George Orwell, 1984 (Nineteen Eighty-Four), publié en 1949. « Crime de la pensée ».
2 منشور 108 – سبتمبر 1981.
3 سبّ الجلالة الإلاهية.. مع العلم أنّ القانون التونسي يعاقب مرتكبها.. ولكن أكثر مستعمليها هم الساهرون على تنفيذ القانون..
4 أمضى على "ميثاق الأحزاب" هذا، ممثلا عن حركة الاتجاه الإسلامي آنذاك، نور الدين البحيري!