"إذا أطردتَ غدا –معاذ الله- من الكرسي الذي أنت معتليه.. ليتك كنتَ على الأقل تُحسن الغناء, أو كنتَ مطرانا أو ملاحا. ولكنك لستَ إلاّ جنرالا, فأنت إذا لا تصلح إلاّ لإعطاء الأوامر. أقبرْ في مكان مضمون المال المتبقّي لديك من الحكومة -هكذا نَصَحتْه أمّهُ- في مكان لا يمكن لأحد الوصول إليه, حتّى إذا ما أُجبرْتَ على الفرار كهؤلاء الرؤساء المساكين الّذين لم تعد لهم أوطان فباتوا يجترّون النّسيان ويتسوّلون وداع البواخر هناك في بيت على الجرف.. تأمّل نفسك في مرآتهم.. ولكنّه لم يكن يأبه له،ا وبصيغة سحرية كانت تلجم اضطرابه الداخلي أجابها: لا تشغلي بالك يا أمي, هؤلاء الناس يحبونني".
غبريال غرسيا مركاز, خريف البطريرك, 1975.
تعريب المقتطف لسعيد الجندوبي
كان لا بدّ له إذا, من الرّكون إلى شيء آخر, يحمي به نفسه على سدّة الحكم, لبضعة عقود. شيء آخر يشبه القتلة المحترفين, الّلذين يقدّمون الخدمات المتنوّعة لمن يدفع الثّمن, ممن تعجّ بهم الشاشات الهوليوديّة, ولكن هذه المرّة في شكل إنتاج ضخم… في ظرف وجيز, بضعة سنين, صار عدد المنتسبين إلى أجهزة "الأمن" المختلفة, 140 ألف من الرّجال… ومن النّساء كذلك - إحدى المكاسب العظمى في تونس, تحرير المرأة! هذا بالإضافة إلى "لجان الأحياء"… لقد كان لإقامة بن علي في بعض دول أوروبا الشرقيّة, خلال الثّمانينات, فوائد جمّة!
النّتيجة الثّالثة لانتخابات سنة 1989 هي إطّلاع مؤسّس "العهد الجديد" على حقيقة الامتداد الشّعبي للتيّار الإسلامي, الذي شارك في هذه الاستشارة - وهو المحروم من الشّرعيّة القانونيّة - بطريقة غير مباشرة, فساند قوائم مستقلّة أحرزت على نسب عالية من الأصوات, حتّى بعد عمليّات التّزوير للنّتائج. فإن كان هناك خطر ما على مستقبل بن علي ونظامه فسيكون مأتاه من الإسلاميّين, الّذين سرعان ما استعادوا أنفاسهم برغم الضربات والرّجات المتتالية, لا سيّما الأخيرة منها. إنّ بن علي هو الأدرى -وهو مهندس هذه تلك الرّجات - بمقدارها على ميزان ريختر…
فما العمل على ضوء هذه الاستنتاجات؟
أوّلا: استقطب بن علي, في عمليّة تأميم كبرى, وبدون عوائق تذكر, أعدادا لا يستهان بها -وإن قبل المعنيّون بالأمر كل أشكال الهوان- من المعارضين (سابقا) اليسارييّن والليبراليين, فرادى وجماعات, إلى نظامه… فجاءوه مهرولين من كلّ فجّ عميق…
(يتبع)