حدثنا أبو المقعار قال:
حلَلْنا بإفريقية في مطلع سبتمبرْ، فوجدنا أهلها منقسمين بين عشرين منبرٍ ومنبرْ، بعضهم مُبْحرٌ والبعض الآخر مُأَبِّرْ1 ، ومنهم من يسبرْ ومنهم من يُزَعبرْ2 ، وفيهم من يناشد ويمجّدْ، وفيهم من يشتم وينبِّر3ْ .
مكثنا على تلك الحال أسبوع وبضعة أيّامْ، وذات ليلة بينما كنّا نيامْ، تهدهدنا الأحلامْ، اذْ بدويّ صاعق اهتزّت له البسيطة وانتفض له الأنامْ. ظننا بادئ الأمر أنّه زلزال أو فرقعة لبعض الألغامْ، فخرجنا لتبيّن الوضع والاستعلامْ، وكدنا نصطدم بكوم من الركامْ، وجدنا حوله خلقا كثيرا فيهم الخاصّة وفيهم العوامْ. ولاح لنا قوم عليهما سمات الأزلامْ، يلطمون ويبكون بكاء الأيتامْ، وتبعهم آخرون صغار الحجم كالأقزامْ، يضربون الكفّ بالكفِّ كمن أقرّ بالانهزامْ. وكدنا نظنّ أنّنا في كوابيس أو أضغاث أحلامْ، لولا أن سألْنا بعض من حولنا، فقال لنا أحدهم أو لم تسمعوا لطخة السيستامْ؟
قلنا: لقد سمعنا "اللَّطخة" ولكن ما السيستامْ؟
قال: هو مجمع البحرينْ، وخلاصة المنظومتينْ…
قلنا: فأخبرنا عن المنظومتينْ، فقد طال بيننا وبين افريقيّة البينْ، وقد تركناها وحاكمها آنذاك الزَّيْنْ، ولم يكن يصلنا من أخبارها قبح ولا شَينْ، بل كان يقال لنا بأنّها كانت تنعم، عوضا عن الأمن، بأمنينْ4 ، وبأنهّا أطردت الفقر ودفعت ما كان عليها من دينْ، وقد غرق الناس في الخير والبحبوحة وفي جودة الحياة إلى العينينْ…
هنا قاطَعَنا محدّثنا قائلا: ويحكم! أراكم تمجّدون العهد البائدْ، وكأنّكم تحاولون توجيه الماء إلى الصعائدْ5 … لقد قلب شعب افريقية على حكّامه الموائدْ، وقام بثورة الحريّة والكرامة بدوم زعيم ولا قائدْ، وأماط اللثامْ، عمّا كان يزّينه الاعلامْ، فاكتشف الناس أنّ حياتهم كانت كالموت الزُّؤامْ، وأنّهم حكموا على مدى عقود بالفلقة وبالرّزامْ، ولم يشعروا بألم إذْ ما لجُرْح بميّت إيلامْ…
ثمّ رحل الحاكم والحكومة، وبقيت في الخفاء المنظومة. وخنَست إذْ كانت من هول الفاجعة مصدومة، وكانت بين الفينة والفينة تصدر نعيقا كنعيق البومة، كلّما بانت لها فُرجة أو اشتمّت رائحة الزّهومة6 ، إلى أن عادت عودة أصحاب الدّارْ، وادّعت كما ادعى جحا: "لنا في هذه الدولة مسمارْ"، بل نحن بُناتها ولن نقبَل بالاندثارْ.
وكان قد حكم بعد هذه المنظومة، أهل صلاح وتقى، فقالوا لمن سبِقهم اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءْ، عملا على حدّ قولهم بسنّة المصطفى (ص)، واحتجّوا بصلح الحديبية وبفتح أمّ القرى، وسُمّوا لذلك بجماعة التُّرُويكاءْ، اذ تركوا المحاسبة والجزاءْ، وجنحوا للسلم والتوافق والإخاءْ، ومزّقوا ما وجدوه من قوائم سوداءْ، بعد أن هدّدوا في "حملة إكبسْ" بنشرها على الملأَ، ثمّ دعوا المنظومة القديمة إلى كلمة سواءْ، أن نحكم البلاد معيّة على نهج التوافق ولننسى الدماء والشهداءْ.
والتقى في باريس الجمعانْ، فوقّعا وثيقة تبرئة الشيطانْ، ونشأ عن هذا القرانْ، فصيلة هجينة الأجذامْ7 ، كثيرة الأسقامْ، ينهشها الجُذامْ8 … ذاك هو السيستام.
هنا قاطعنا محدّثنا: الآن حصحص الحقّ وفهمنا معنى السيستامْ، ولكن حدّثنا عن "لطخة السيستامْ"…
هي شُلبوقٌ9 على العنق يهبط بدون سابق إعلامْ، يتبعه مِقَصٌّ يهزّ الأقدامْ10 ، فانتفاضٌ وانفراشٌ يُفقد صاحبه التفكير والكلامْ… ومن علامات الصدمة: أنْ تقوم نوّاحة في وسائل الإعلامْ، لما عشّش فيها من أزلامْ… تلك هي "لطخة السيستام"…
فعجبنا من كلام صاحبنا وودّعناه بالشكر والابتسامْ، وقلنا لله درُّ شعبَ افريقيّةَ، فهو ما فتئ يدوّخ بابتكاراته عموم الأنامْ…
1-من أبَرَ أي سافر برّا. واستعملت هنا كناية عن شدّة انقسام الناس.
2-يسبر من سبر الآراء التي يسبق عادة الانتخابات. يزعبر يرشق بالسهام.
3-نبّر، ينبّر تنبيرا ونبّار… وهو السخرية والتهكّم من الخصوم.
4-إشارة إلى الأغنية المتداولة آنذاك ومطلعها بالأمن والأمان، يحيا هنا الانسان.
5-هناك مثل تونسي يقول: "فلان يطلّع في الماء للصعدة" أي يبحث عن المصاعب.
6-يقال زَهِمتِ الدابّة أي سمِنَتْ وكثر شحمها فصارتْ لها زُهُومة.
7-الجذم الأصل. وجذم الرجل أهله وعشيرته.
8-مرض يصيب الجسم يؤدي إلى تساقط الأعضاء وتآكلها، وهو من العيوب المجوزة لفسخ عقد النكاح بين الزوجين.
9-الشُّلبوقُ هو الصفعة الثقيلة بملأ اليد.
10-يقال مقَّصَه تمقيصا: أي أوقعه على حين غرّة بركل قدميه مجتمعتان.