لقد رذّلت، للأسف الشديد، القيادات البيروقراطيّة الجاثمة على "حركة الاتجاه الاسلامي سابقا/النهضة اليوم"... هذه القيادات المترهّلة والموغلة في "التكتيك" معتبرة إياه هدفا في حدّ ذاته، ضاعت معه المبادئ والطعم والرائحة... تلك القيادات التي جعلت أو قبلت مقابل الوصول إلى الحكم مهما كان الثمن، بأن تتحوّل "الثورة" إلى مجرّد "انتقال ديموقراطي"، وقبلت بأن تكون العدالة مجرّد "عدالة انتقالية"، واعتبر بعضهم بأنّ "الاسلاميين والدساترة أبناء عمّ"، الى آخره من انزلاقات حوّلت حركة أسست على فكرة القطيعة المطلقة بين "الخير" و"الشرّ"، بين "النور" و"الظلمات"، بين "الفساد" و"الصلاح"، بين "العدل و"الظلم" الى آخره من قيم ومبادئ التأسيس التي انخرط فيها عشرات الآلاف من الشباب، وآمنوا بها بكلّ صدق وإخلاص... تلك القيادات بمواقفها المتذبذبة، رذّلت نضالات من ناضلوا وضحّوا بالغالي وبالرخيص... أكلت السجون والمنافي شبابهم... وتركوا من جلودهم على منصّات التعذيب والاغتصاب... وفارق العشرات منهم الحياة تحت مدى "آخر المتبقين من العصر الحجري"... وتوقفت مسيرة دراسة الكثير منهم... وفصل الآلاف من أعمالهم... الى آخره ممّا لا يمكن تبريره بأيّة حال…
هذه القيادات البيروقراطية الجاثمة على هذه المآسي جعلت من أراذل القوم... ممّن لا يعرفون للحريّة وللكرامة طعما ولا مذاقا... ممّن صفّقوا ومجّدوا الديكتاتوريات على مدى عقود... ممّن لم يدخلوا مركز شرطة إلاّ لاستخراج شهادة اقامة أو بطاقة تعريف... ممّن عاشوا في ضلال الديكتاتورية "كالأنعام بل هم أضلّ"... جعلت من كلّ هؤلاء يتجرّؤون على من ناضل ونذر حياته للنضال بل ويعيّرونهم بنضالهم...
ثمّ إنّ مسألة جبر الضرر لضحايا الديكتاتوريّة، ليس كما يقع التسويق له من حين لآخر، في إطار المعارك السياسية التي يشهده المستنقع السياسي اليوم... هي مسألة تخصّ الإسلاميين، بل هي جبر ضرر لحق ضحايا من مختلف المشارب... والعديد منهم لم يكونوا أصلا من فئة "المناضلين السياسيين"... فكم من مواطن فقد أرضا أو مصدر رزق بسبب تغوّل ونهم القائمين على الدولة طيلة عقود... وكم من تلميذ أطرد من جميع معاهد الجمهورية لوجوده ضمن احتجاج داخل معهده... وكم من زوجة افتكّت من زوجها؟ ألم يحدث هذا؟ بلى! والمظالم كثيرة ومختلفة ومتنوّعة بتعدّد الضحايا…
المسألة إذًا مسألة قانون ومبدأ… فمن حقّ أي مواطن وقع ضحيّة للدولة وأجهزتها أو حتّى ضحيّة مواطن آخر أن تجبر العدالة ضرره وأن يسترجع حقوقه… وليس لأحد الحقّ في تسييس هذه المسألة ولا اعتبارها ورقة ضغط خاضعة للمساومة… وهي ليست ملك حزب من الأحزاب… إنّها مسألة حقوق أساسيّة…
ولكن ما حدث في تونس نتيجة الانتهازية الحزبية والسقوط الأخلاقي للمشهد السياسي برمّته هو المساواة بين الضحيّة والجلاّد… بل بلغ الأمر إلى تبييض الجلاّدين لحسابات حزبية ضيّقة وتمييع قضيّة الضحايا بتمطيطها عبر الزمن، ولم يبق إلاّ أن تطلب الضحيّة العفو من الجلاد…