أمّا وقد بلغ به التهويم في التاريخ المغلوب على أمره والتعلّق بشخصياته المؤسطرة حدود الأندلس، فيجدر تنبيهه، قبل فوات الأوان عليه وعلينا، أنه ليس "الجنرال" طارق بن زياد ولا سفن لديه ليحرقها إلا أعصابنا المشتعلة أصلا... والأرجح أنه أقرب إلى ذلك الفارس الإسباني "العبقري النبيل" دون كيشوت (وقيل الأصح دون كيخوتي)، الذي انتهت به تهويماته و مغامراته العظيمة، مع مرافقه الوفي، إلى محاربة طواحين الهواء…
نعم مع الأسف هو لا يدرك أن "زمن الفوارس" ولّى وانقضى، و لم يعد مجال للشك في غربته عن مكانه وزمانه الرديئين الظالمين الفاسدين الغادرين، حيث يرى أعداءه و"أعداء الوطن" و أشباحهم في كل زاوية وفي كل اجتماع لا يتصدره ليسبغ عليه حكمته وحنينه الصادق العميق إلى عدل عمر و انغماسه التام في أدب التوحيدي والمعري وابن المقفع والمتنبي مع شيء من التقليد للأسلوب الخطابي الفخم لأحد زعماء المشرق العربي خلال القرن الفارط (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، كما زادنا اليوم كمحافظ أصيل مرجعا جديدا "مستنيرا" هو الشيخ محمد الخضر حسين المدافع في الحقيقة عن دولة الخلافة الإسلامية والأوقاف والقضاء الشرعي…
ولكن أي علاقة لتلك الشخصيات والمصادر القديمة، التي يعتقد أنه يقتدي بها وينهل منها حتى سكنت روحه وعقله وقسمات وجهه ولسانه، بدستور ديمقراطي حديث يفصل بين السلطات ليس مطلوبا منه إلا احترامه واحترام عقولنا، ومحاولة تجميع الفرقاء بلا حرب وقرع دائم لطبولها في خطبه بل دروسه المتعالية المتوحّدة المتوعّدة...
فعلا، أين المفرّ ؟ فقد أكّد اليوم "حلوله" المطلق بيننا وأنه أمامنا (بصفته الشعب) و من ورائنا ( بصفته الدستور)، بعد أن صرّح من قبل بأنه يراقب الصراط ويملك مفتاح الجنة. فأين المفر ؟ دستوريا أو سياسيا...يمينا أو يسارا... ويا لليمين التي أنكرها ثم تمسّك بها كرمح دستوري عجيب وغريب يلّوح ويبارز به خصومه بل أعداءه... مع تصفيق بعض الجماهير المتحمسة والنخب المتحفزة من وراء ستار إلى جانب "المشجعة" الأولى (لا ليست الثانية) التي حيّرتني حينما قبّلت العلم التونسي بنظرة حالمة في بداية هذه المسرحية التاريخية ذات البطولة الخارقة التي ترفع بدورها، وعلى طريقتها الملحمية قبل "النكسة" الأخيرة الآتية لا ريب فيها، ذلك الشعار الرجعي على خلاف حركة التاريخ والتقدّم: "نرجعو وين كنا" !!