من حسن حظ تونس وحكمها المدني فشل المحاولة الانقلابية سنة 1962، ولو أن أحد الضباط المتواطئين فيها، كمسؤول عن المخابرات العسكرية ولم تتم محاكمته، تمكن بعد خمسة وعشرين عاما كوزير أول من تنفيذ "انقلاب طبي دستوري" أزاح به الرئيس المؤسس لدولة الاستقلال، وقد تقبل الجميع تقريبا، في البداية على الأقل، ذلك "التغيير المبارك" الذي كشر عن أنيابه التسلطية تدريجيا معتمدا بالأساس على الجهاز الأمني لكنه لم يسع إلى إقحام الجيش في الحياة السياسية ودواليب السلطة محافظا بذلك على عرف تونسي محمود وضعه الرئيس بورقيبة المتوجس عن حق من النموذج المشرقي للجمهوريات العربية المسلحة وانقلاباتها العسكرية التي آلت في معظم الحالات الى تقسيم البلدان وتخريبها وتمزيق نسيجها المجتمعي.
أما انقلاب 2021 عندنا فمن الواضح منذ التحضير له قبل عدة أشهر أنه سيتجاوز ذلك الخط الأحمر بالنسبة إلى مدنية الدولة التونسية (والأصح أن نقول "الحكم المدني") ، وبغض النظر عن تكليف إدارة الصحة العسكرية بالإشراف على أزمة كوفيد التي تم توظيفها سياسيا، وافتضح الآن من قام باستثمارها دونما أخلاق وإنسانية وروح وطنية، يكشف الالتجاء الممنهج هذه الأيام للقضاء العسكري قصد تحييد الخصوم السياسيين وكتم أصوات المدونين وغيرهم وترويع عائلاتهم أننا مقبلون على مرحلة سياسية قاتمة للغاية وأسوأ بكثير من الفترة النوفمبرية التي يمكن اعتبار هذا "العهد الجديد"، الذي انطلق يوم " 25 يوليو " ( هذا أنسب لنكهتها المصرية)، امتدادا لها وترسيخا لتوجهها في خدمة الطغمة المالية المحلية والأجنبية المتصارعة المحاور، وفي هذا السياق يبدو أننا قد اخترنا بوضوح هذه المرة "محور المنشار" وتناسينا قصة "النأي عن سياسة المحاور" والتمسك بالسيادة الوطنية المخترقة بسبب التداين المفرط وشبح الإفلاس.
وإذا حضر القمع المدجج بالسلاح واقتحام البيوت واختطاف المواطنين في احتقار تام للحقوق والإجراءات القانونية غابت الحرية والكرامة والعدالة واستحال تحقيق شعارات "الشعب يريد" و "تمكين الشباب" ( وهو شعار فاشي تاريخيا) و"محاربة الفساد" إلى كذبة سمجة وإن ضحت السلطة انتقائيا بفاسد أو فاسدين أو ضغطت وابتزت من فاحت رائحتهم أكثر من اللازم و لم ينخرطوا بعد في سياسة الولاء أو قامت ديكوريا بتعيين شابة وشاب و"مفكرة" و"فنان" في منصب وزاري.
لكل ذلك، ينبغي على النخب التونسية المثقفة عدم تكرار تجربة "قائمة المناشدة" أو لعب دور مساحيق تجميل وتزيين لوجه نظام دميم ومشوه بصدد التشكل خصوصا وأنه مكشوف ومستشعر به هذه المرة "déjà vu"، على غرار ما فضحته الأغنية البنفسجية "المجمّرة"، بل عليهم استلهام أعظم نموذج حديث لموقف المثقف الملتزم بالدفاع عن الحرية، إن كانوا يؤمنون بها فعلا، وهو موقف الأديب الفرنسي والإنساني الكبير فيكتور هوغو عندما واجه المستبد "نابليون الحقير" الذي انقلب على مبادئ الجمهورية بعد أن تم انتخابه على أساسها…
نعم مؤلف "البؤساء" سحب توكيله (كما قال صاحبنا في حملته الانتخابية منذ سنتين ولو دعونا الى ذلك اليوم لحاكمنا وفق أحكامه العسكرية العرفية) ممن قام بالتصويت له وسانده، حالما انكشفت طبيعته الاستبدادية وسعيه للانفراد بالحكم خدمة للطغمة المالية والعسكرية على حساب عموم المواطنين الذين كانوا مخدوعين فيه ومتحمسين له ...
طبعا فرنسا لم يكن فيها "إسلاميون" يخشى منهم على "النمط المجتمعي" وربما يشكلون في نظر الكثيرين تهديدا أخطر على الدولة والمجتمع من "المستبد المستنير". ولكن كان فيها أيضا ما يبرر الاستبداد المحافظ والرجعي الملكي: شيوعيون وأشتراكيون وجمهوريون ليبراليون واناركيون بصدد الصعود أصبحوا يمثلون قوى سياسية معتبرة و مؤثرة في الشارع وفي المجالس المنتخبة التي تم حلها واستهدافهم جميعا إلا المنكسرين والمتخاذلين والطماعين منهم.
ومهما اختلفت الأزمنة الحديثة والأماكن (كما كان حال أمريكا اللاتينية ومآسي الحكم العسكري العميل للامبريالية فيها ) يمكن أن يجد المستبد الحاكم بأمره ومساندوه ألف مبرر حقيقي أو مصطنع ، مثل المحافظة على الاستقرار والأمن العام والسلم المجتمعية ووحدة الدولة ومواجهة خطر خارجي وتحقيق النمو الاقتصادي (مع احتكار الثروات دون توزيع عادل)، وقد يختلق من أجل ذلك، بأجهزته وأياديه القذرة وبلطجيته، أحداثا وحوادث لزرع الخوف وفرض الصمت والقبول بالأمر الواقع، ولكن لا شيء على الإطلاق يمكن أن يبرر لمثقف حر (مفكر أو فنان أو إعلامي) الانخراط في جوقة التصفيق والتأييد و"الاستفتاء بنعم" لذلك الاستبداد أو الوقوف معه ضد الحريات وأولها حرية الرأي والرأي الآخر…
وفي الأخير لا أحد بمقدوره، طال الزمان أو قصر (وليكن بعد عشرين عاما ودورة ثالثة وأخيرة كالزفت من المنظومة القديمة) ، إيقاف سير الشعوب وتقدمها نحو الحرية والمساواة.