كلما وقعت جريمة بشعة في تونس وأثارت الرأي العام، مثل جريمة القتل الغادرة التي راح ضحيتها منذ يومين شاب في العوينة، كلما عادت وترددت على الألسن عبارة صارخة: "الإعدام هو الحل" وهي تذكرنا بعبارة سحرية أخرى تأسر الألباب على نحو أوسع في مجتمعاتنا.
القتل القانوني للمجرم القاتل المتعمد يبدو للوهلة الاولى من صميم العدالة و تحكيم "مبدأ القصاص" ولكن هل ينهي الإعدام القتل ويجتثه من جذوره؟ لا طبعا. فيقول قائل : على الأقل يحدّ منه ويقلصه ويطفئ نار الغضب والرغبة في الثأر لدى أهل الضحية.
لو دققنا في وجاهة الحجة الأولى الفضفاضة لاكتشفنا أنها تفتقر إلى أي سند إحصائي موثوق. ما نعرفه كمّيا في المقابل أن أكثر من نصف دول العالم قد ألغت عقوبة الإعدام، وبعضها منذ قرن ونصف، وضمن هذه البلدان بالذات نجد أحسن المؤشرات العالمية في مستوى انخفاض نسبة الإجرام سواء تعلقت بجرائم القتل أو غيرها من الجرائم كالسرقة. وليس من حسن الصدف أن نجد هذه البلدان الراقية أيضا (ولا سيما منها الاسكندينافية) تتصدر سنويا مؤشر التنمية البشرية.
والأكيد أن هناك علاقة تكاد تكون سببية بين ارتقاء مؤشرات التنمية البشرية، المتمحورة حول التعليم والصحة والتشغيل ومكافحة الفقر ومواجهة الفساد واحترام البيئة وتوفير مختلف مقومات الكرامة الإنسانية و الأمان الاجتماعي، وبين تراجع أرقام الجريمة ومحاصرة أسبابها وعواملها حتى تصبح استثنائية ونادرة.
وبالتالي يمكن القول إن العدالة الاجتماعية الاستباقية أقدر على التصدي الشامل للجريمة من العدالة القضائية البعدية على أهميتها وضرورتها بطبيعة الحال إلى جانب الانتشار الأمني الجيد.
أما الحجة الثانية المتعلقة بإطفاء نيران الغضب والحقد والثأر (يدعو البعض بكل حماس قروسطي إلى تنفيذ حكم الإعدام في ساحة عامة وكأنه حفل جماعي دموي بدعوى ضعيفة لم تثبت قوتها عبر التاريخ "حتى يكون عبرة")، فالرد عليها أيسر بالقول إن الدولة الحديثة بسلطتها القضائية ليست لها مشاعر الأفراد وليس دورها أن ترضي رغباتهم وتتقمص روحهم الانتقامية.
دورها أن تراعي حقوق الإنسان وعلى رأسها الحق في الحياة وتفادي جريمة التعذيب (الإعدام بكل أنواعه شكل من التعذيب) وأن تطبق بالنسبة إلى أسوأ الجرائم أقسى العقوبات، وهي سلب الحرية مدى الحياة، على جميع من يستحقها دون تمييز طبقي أو فئوي في كنف المساواة، وذلك روح العدالة.