القضاء يقضي ببراءة الياس الفخاخ من التهم التي نسبت له، لم اشكّ في ذلك لاطلاعي على الملف في ابّانه وتحمّلت مسؤولية التصريح بذلك مرّات ومرّات وربّما كنت من القلائل الذين فعلوا ذلك احقاقا للحق اوّلا وغضبا من الممارسات التي آلت الى اسقاط حكومة بنيت على تصوّر سياسي متحفّز للإصلاح والتمكين الديمقراطي.
عند طرح موضوع توزيع المسؤوليات عن السقوط لا بدّ من موقع الشهادة واحقاق الحق وتقدير المآلات أن نستخلص سلسلة من المسؤوليات المترابطة لما لذلك من ارتباط مباشر مع ما آلت اليه الأمور اليوم:
1- النهضة:
مسؤولية حركة النهضة كانت بالأساس في سوء تقدير الموقف الوطني وحاجة الانتقال الحياتية لوضع اسس توافق سياسي جديد بشروط الثورة والاصلاح وليس بشروط المنظومة القديمة في تثبيت الأمر الواقع السياسي من جهة وعدم المساس بالتوازنات الاجتماعية الظالمة و الأركايكية اي توافق بشروط مراكز النفوذ الإقتصادي العائلي والريعي من جهة ثانية.
لم تتعامل حركة النهضة مع الأمر كفرصة أخيرة لإنقاذ التجربة بما يتطلّبه ذلك من تصميم على النجاح وعدم التفريط السريع خاصّة من الحزب الأكثر تمثيلية والأكثر مسؤولية، بل تعاملت مع الموضوع في اطار المناورة وحماية التوازنات الحزبية الداخلية والبرلمانية لم تكن قادرة على استيعاب الصعوبات الجمّة التي عرفتها جميع الاطراف في ادارة متوازنة لتحالف حكومي مركّب ومعقّد.
فتحوّل اهتمامها الاكبر الى حماية كيانها ورئيس البرلمان من تحالف حكومي باتت تراه معاديا بتكوين تحالف موازي في البرلمان متعادي مع نفس الحكومة التي تشارك فيها النهضة ذاتها بأكثر من ستّة وزراء!!
بلغ الأمر بالحزب (مع حلفاءه القلب والائتلاف) الى الاعتماد على ملف تضارب المصالح الذي أعدّته غرف المنظومة المعادية للانتقال اصلا لضرب القدرات الاصلاحية للحكومة فانتهى بها الامر الى ايداع لائحة لوم ضدّها.
ونتيجة ذلك المباشرة كانت تمكين قيس سعيّد من العودة بقوّة للعب أدوار رئيسية في العملية السياسية وفتحت امامه بوّابة واسعة لتعفين الوضع مع حكومة المشيشي المتخاذلة. تمهيدا للانقلاب.
2-التيار والشعب:
بقيّة أحزاب التحالف وخاصّة حزبي التيار والشعب، هذه القوى التي حسبناها طرفا أساسيًا في "حكومة الثورة" كانت إجمالا متردّدة وغير مطمئنة للصيغة التوافقية مع حركة النهضة وذلك منذ انطلاق المسار التفاوضي مع حكومة الجملي في البداية والذي استمرّ مع تشكيل حكومة الفخفاخ.
في اطار مناورة غاية في الصبيانية والسياسوية، قدّر الحزبين انّه من الممكن استعاب النهضة (الطرف الاكبر في الائتلاف!) وحشرها في زاوية وتقليص دورها الحكومي بالسعي الى انشاء حلاقات حكم متعدّدة داخل الحكومة تكون فيها هي مع رئيس الحكومة في الحلقة الأولى والمركزية.
كما سعت الى استكمال دائرة الحصار على "الحليف الحكومي" الأكثر تمثيلية في البرلمان بإنشاء تحالف برلماني موضوعي يواجه التحالف المقابل إقتصر معظم نشاطه في الاشتراك مع القوى الفاشية في محاصرة رئيس المجلس (في محاصرة رمزية للحزب "الشريك").
انتهى بها الأمر الى الانخراط في تمشي أخطر وهو اضعاف المجلس النيابي برمّته وتعطيله وصولا ل"تشليكه".
ساهم ذلك مباشرة في نحت السردية التي اعتمد عليها سعيّد تدريجيّا ورسّخها والقائمة بالأساس على أن البرلمان صار "خطرا داهما" ومن ذلك انطلق في اجراءات انقلابه.
3- الياس الفخفاخ:
الياس الفخفاخ نفسه الذي ابدى تردّدا كبيرا وضعفا سياسيّا في قدرته على إدارة تحالف حكومي صعب ومركّب في نفس الوقت الذي كان مطلوبا من حكومته إدارة أزمة صحيّة ووبائية غاية في التعقيد.
كما كان مطلوبا من حكومته في ذات الحين وضع أسس عملية اصلاحيّة شاملة والشروع في تنفيذها فورا لتامين انعاش الاقتصاد كشرط ضروري لاستمرارها.
رئيس الحكومة، وتحت سطوة الالتزامات السياسية التي قيّده بها سعيّد ليلة تكليفه، وتحت تأثير سردية انّه يستمدّ سلطته من مشروعية الرئيس وانغلاق الخيارات أمام "شركاء الحكم" وانحسار دائرة تحرّكهم، تدحرج نحو مربّع الانخراط في استراتيجية "حلقات الحكم".
استكن الفخفاخ الى فكرة وضع حركة النهضة ووزراءها في الدائرة الثالثة بعد الدائرة الأولى المتكوّنة من رئيس الحكومة/رئيس الجمهورية ثمّ الدائرة الثانية المتكوّنة من رئيس الحكومة/التيّار والشعب والتكتّل (بصورة غير مباشرة).
ورغم استشعاره في العديد من المرّات انّ احتدام الصراع بين مكوّنات الائتلاف الحكومي من جهة والائتلاف البرلماني من جهة اخرى مهدّد لكيان الحكومة الّا انّ محاولاته لضبط علاقات سليمة في الحدّ الادنى لم تكن بالزخم الكافي والقدر الضروري فبانت هامشية وغير مؤثّرة.
استمرّت الأزمة وتعفّنت الى ان تداعت الحكومة و"زعيم الأغلبية الحكومية" عاجز على كبح جماحها.
كان إلياس الفخفاخ مطمئن الى دعم قيس سعيّد وكان على قناعة بأن الرئيس سيحميه في النهاية مهما تداعت الوضعية.
لكن جاءته الضربة القاسمة من حيث لا يدري. لم يفهم أن لسعيّد مشروعا خاصّا وانّه غير مهتم لا بمصير الحكومة ولا بمصير رئيسها وان كلّ همّه كان المحافظة على سلطة التكليف لأنّها مدخله الوحيد للتأثير في العملية السياسية وتعقيمها اعدادا للانقلاب.
4- قيس سعيّد:
الذي ضرب حكومة الفخفاخ في مقتل حين اقال رئيسها دون علمه في عملّية استباقية وانقلابيه كانت غايته الوحيدة منها هي قطع الطريق امام لائحة اللوم البرلمانية والمحافظة على سلطانه في اختيار المكلّف بتشكيل الحكومة واملاء شروطه عليه.
سعيّد لم يعر تلك الحكومة اي اعتبار، بل تمنّى سقوطها ولم يحترم رئيسها رغم ان الفخفاخ كان وفيّا لاتفاقاته مع سعيّد، ولكن الأخير غدر به وتخلّى عنه في اوّل مناسبة شعر فيها انّ سلطانه مهدّد.
الفخفاخ كان في الواقع ضحيّة عملية استباقية هدفها الاخير انقلاب على الدستور. سعيّد كان يخطّط فقط لانقلابه وجلب هشام المشيشي وشرعا في برنامج التعفين.