![Photo](img/articles/2607.jpg)
مثّلت أحداث ما يسمّى بالربيع العربي برهانا ورهانا للبعض من المؤمنين بـ“العروبة” لسانا وإنسانا ومكانا على إمكانيّة انبثاق نواة وحدويّة عربيّة تعيد الاعتبار لفكرة الوحدة والمصير المشترك، بعيدا عن فكرة التجزئة المناطقيّة والمذهبيّة المقيتة والهويّات المزيّفة والكيانات الهجينة.
كانت حجّة المؤمنين بالوحدة العربية أنّ الانتفاضة التي جدّت في تونس انفجرت شظاياها في مصر ومنها إلى اليمن والمغرب والجزائر وليبيا والبحرين، ولم تلامس أيّ جغرافيا إسلامية غير عربيّة ما يؤكد أن رابطا ثقافيا ولغويّا يشد عرى هذا المكوّن المسمّى بالفضاء العربي، ودون ابتسار لدور الدين الإسلامي في تأصيل الحضارة العربية فإنّ تلازمية العروبة مع الإسلام شكلت كينونة الإنسان والزمان في المنطقة العربيّة.
وحتّى عندما استدارت الأحداث من الديمقراطية إلى الدماء والدمار، مفضية إلى سقوط الدول القطرية كانت غمامة الخراب توحّد السماء العربية مؤذنة بأنّ الحيز مشترك ومشارك في الأفراح والأتراح وما أكثر الثانية وما أقل الأولى.
كما سقطت مقولة الربيع مسقطة لمقولة الإصلاح، ومؤسسات رديفة داحضة لسلطة الدولة، وعواصم موازية مقوّضة للإدارة المركزيّة، ومجالس انتقاليّة ناقضة لشرعيّة الدولة، فإن مفردة “العربيّ” بدأت تطمس من تعاريف الدول وديباجات الدساتير.
أيام قليلة بعد سقوط النظام الليبي كان القادة الجدد متباينين حد التناقض في كل شيء متعلق بحاضر ومستقبل البلاد، إلا في نقطة واحدة وهي “الاستغناء” عن الهوية العربيّة للدولة الليبية في تسميتها أو في الفصول الأولى للنسخة الأولية للدستور الجديد.
لا يعني هذا الأمر أن العروبة القسرية والإقصائية والتسلطية المعتمدة من نظام معمّر القذافي والخالية من أي بعد ديمقراطي تمثل الحالة السياسية المثلى، بيد أنّ الأمثل لا يكون بالانتقال من “الأحاديّة القومية” إلى حالة “الانفراط بلا عمق قومي”، وإنما يكون بالتلازمية بين العروبة والديمقراطية.
وكما غاب البعد العربي في النسخة الأولى لدستـور ليبيـا “الجديدة”، فإن النسخة الأولية من الدستور السوري، المكتوب بحبر روسي أميركي، تغيب عنه أي إشارة إلى عروبة أرض الشام تاريخا أو راهنا.
اللافت أن دساتير ما بعد الربيع العربي لا تلغي فقط الوعاء العربي عن دولها، وإنما تضع الهويات الجزئية في مقابل الهويّة العربية ما يجعل العروبة خصوصية ثقافية ورافدا حضاريا من جملة مساقات أخرى للهوية المتعددة والمبهمة في آن واحد.
عندما تغيب ثنائية الأصل والتعدد عن تعريف “الهوية” فإنّ التباسا مفاهيميا وثقـافيا خطيرا طارئـا قـد يفضي في المحصلة لا فقط إلى تجاوز الوعاء العربي، وإنما إلى تفتيت منهجي وفق مقولة أقومة الأقليات.
تعيش الجزائر اليوم هذا الإشكال الهوياتي الخطير وذلك بعد التعديلات الدستورية في مارس 2016 والتي عملت على دسترة اللغة الأمازيغية، فيما تتصاعد الدعوات الانفصالية في منطقة القبائل على وقع سردية أمازيغية جديدة تقوم على فكرة الأمة الأمازيغية و“الوافد العربي المحتل”.
نفس الأمر يعرفه المغرب أيضا بعد دسترة الأمازيغية في 2011، حتى وإن كانت درجة التسييس في المغرب أقل بكثير منها في الجزائر نظرا لعدة اعتبارات ثقافية مرتبطة بطبيعة النظام الملكي في المغرب.
ذات السيناريو تقريبا في كل دولة عربية، تغيير دستور، طمس للبعد العربي، تحويل الأقليات إلى قوميات، والعروبة إلى لغة وطنية بجوار لغات عديدة، تصيير الجغرافيا إلى مناطق لها “منطقها ومنطوقها ونطـاقها”، وتحويل الفيدرالية من نظام وحدة بين الجهات المتصارعة (الحالة الأوروبية) إلى نظام تفرقة بين جهات البلد الواحد.
دساتير ما بعد الربيع العربي، قد تكون هي الاستدلال الأكثر إقناعا بأن عملية التأريخ للربيع العربي تبدأ من احتلال العـراق ومن الدستـور الطائفي المناطقي الذي صاغه “الحاكم المدني” بول بريمر في 2003، وليس من نهايات ديسمبر 2010 كما يريد إيهامنا مناصرو “القوميات الجديدة”.
يتوهم البعض بأنّ الربيع العربي قاطع لما سبق من الزمان، حيث أنه يؤرخ لما قبله وما بعده من أحداث، غير أن تداعي ذات الصيرورة الدستورية القاطعة لكل وعاء ثقافي عربي يشير إلى أن الربيع العربي لا يعدو غلا أن يكون حلقة من مسلسل الفوضى والتدمير، له سابقه من احتلال العراق من مقولة “الشرق الأوسط الجديد” وله لاحقه.
أمين بن مسعود :كاتب ومحلل سياسي تونسي