تضع باريس المسألة اللغوية ضمن المسائل الاستراتيجية وصلب مدارج الأمن الهوياتي، وتتمثل المجال الفرنكفوني كقوة ناعمة وفضاء اعتبار لبراديغم النهضة الفرنسية وإسهامها في الحضارة الإنسانية.
الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منتصف الأسبوع الجاري في باستيا، والذي تطرق فيه إلى مطالب القوميين الكورس في جزيرة كورسيكا يستدعي وقفة طويلة وترويا في استقراء المسلكيات والمقاربات التي تتعامل معها الدولة الوطنية مع قضية اللغة.
الرئيس ماكرون توجه برسالة وُصفت بالحادة إلى أهالي كورسيكا الذين يطالبون بمجموعة من الحقوق الثقافية واللغوية، على رأسها اعتبار اللغة الكورسية لغة رسمية ثانية في البلاد إضافة إلى حقوق مدنية أخرى، حيث أكد الرئيس الفرنسي الذي يحسب على التيار اليساري بصبغته الاجتماعية والثقافية أكثر من الوسط الجمهوري، أن “اللغة الرسمية الوحيدة في فرنسا هي اللغة الفرنسية فقط”، حتى وإن أقر أن حكومته ستعمل على تعزيز استعمال اللغة الكورسية والمحافظة على تراثها ولكن دون مأسسة أو رسملة.
وهو بهذا، أي ماكرون، لا يأتي بجديد إنما يتناغم مع السياسة الرسمية لكافة الرؤساء الفرنسيين من اليسار إلى اليمين، والتي تضع المسألة اللغوية كصمّام أمان اجتماعي ووطني وصانع للأمة الفرنسية وأصل هوياتي يصنع التمثل ويؤسس للهوية الفرنسية.
على هذا الأساس، لم يتردد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران في رفض مشروع قانون تمت المصادقة عليه من طرف البرلمان لدسترة اللغة الكورسية واعتبارها لغة رسمية ثانية، وأعاد مسودة القرار برمته إلى البرلمان نظرا إلى أن ” ثنائية اللغة تفضي إلى إضعاف الدولة الوطنية إن لم يكن تقسيمها”.
يحصل هذا الأمر في دولة موقّعة على الإعلان العالمي لحقوق المجموعات الأقلياتية (10 ديسمبر 1992)، وممضية أيضا على البروتوكول الأوروبي الخاص بدعم اللغات الجهوية والمناطقية للأقليات، وفي حال استثنينا بعض الأصوات الثقافية والسياسية من أقصى اليسار الفرنسي، فإن إجماعا صلب الفضاء السياسي والاجتماعي والنقابي والفكري بأن اللغة الرسمية والوحيدة للدولة الوطنية الفرنسية هي اللغة الفرنسية.
تعتبر فرنسا واحدة من أكثر الدول الوطنية مركزية، سواء في مستوى نظامها السياسي المتمحور حول الرئيس، أو في مستوى تمركز معظم القرارات والسلطات والصلاحيات في باريس ما بين البرلمان والإليزيه، ولو قاربنا المسألة بأكثر عمق فبالإمكان القول بأن فرنسا قد تكون الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم بنظام رئاسي لا برلماني، ومركزيّ لا فيدرالي.
الحساسية الفرنسية حيال اللغة الثانية مفهومة، فالدول الوطنية تبنى ثقافيا على ثنائية التاريخ المشترك واللغة، فلئن كان التاريخ هو الخيط الناظم لتشكل الهوية فإن اللغة هي أداة التمثل الجمعي ووسيلة الاندماج وعمود التماثل والتمايز.
وكأيّ دول وطنية بنت نهضتها وشخصيتها الثقافية والمعرفية والرمزية على وحدة اللغة، تضع باريس المسألة اللغوية ضمن مصفوفة المسائل الإستراتيجية وصلب مدارج الأمن الهوياتي. على هذا الأساس، تتمثّل فرنسا المجال الفرنكفوني كقوّة ناعمة وفضاء اعتبار لبراديغم النهضة الفرنسية وإسهامها في الحضارة الإنسانية.
لذا فهي ترفض ولا تتردد في إبراز احترازاتها حيال أي تفكير رسمي من داخل المجال الفرنكفوني لتغيير اللغة الفرنسية باللغة الإنكليزية أو بأي لغة أخرى، فالقضية وفق التمثل الفرنسي تقوم على ثنائية الاعتزاز باللغة الفرنسية كمقوّم دولة وصانع هوية فرنسية في الداخل لا تقبل دسترة أو رسملة أية لغة ثانية، وقوة ناعمة وغنيمة من حروب الاستعمار في المجال الفرنكفوني من غير المقبول أن تزاحمها فيه أي لغة ثانية.
هكذا بالإمكان الجمع بين خطابين للرئيس ماكرون في أقل من أسبوع، واحد في تونس تحدّث فيه عن تونس كمجال حيوي واستراتيجي للفرنكفونية اللغوية والثقافية والرمزية (لم يتردد رئيس حكومتنا في رد التحية بالحديث باللغة الفرنسية عوضا عن العربية) والثاني في باستيا حيث اعتبر أن اللغة الفرنسية هي اللغة الوحيدة الرسمية للدولة الفرنسية.
في الخطاب الأول تحدث ماكرون كرئيس دولة كبرى ذات مشروع ثقافي ولغوي من السهل أن تتملك الشعوب الفقيرة وتستوعب جغرافياتها الفكرية والمعرفية للنمذجة والمثالية.
وفي الخطاب الثاني تطرّق ماكرون إلى المسألة اللغوية الفرنسية كمسألة أمن قومي، فاللغة هوية واللغة تاريخ ومن لا لغة له لا هوية لا، هذا ما قاله ماكرون للفرنسيين عامة ولأهالي الكورس خاصة، وهذا ما لم يقله للتونسيين وليوسف الشاهد رئيس الحكومة خاصة.