مؤتمر الاستثمار.. 'التشاؤل' الجمعي والزمن الثوري

Photo

قد تكون هذه الفترة هي الفترة الاستثنائية منذ 5 سنوات من عمر الثورة التونسية، حيث يطغى الحديث الاقتصادي بوجهه الاستثماري على التطارح السياسي أو التجاذب الاجتماعي، ناهيك عن المكاسرة الأيديولوجية.

وفي استحضار لمقولة توفيق الحكيم في بواكير ثورة عام 1952 عندما حبّر رأيه بعنوان “عودة الأمل” يبدو أنّ الرأي العام المحلي الذي يعرف اليوم واحدة من أحلك الحقب السياسية والاجتماعية والإستراتيجية أبصر في التعهدات الدولية إن صحت، وفي الوعود المالية إن صدقت، وفي الالتفاف العربي والإسلامي والعالمي إن عزم، فجرا تنمويّا تحتاجه تونس اليوم أكثر من أي وقت سابق.

واحدة من أبرز معضلات الثورة التونسية كامنة في تراكمية وترابط استحقاقاتها، ذلك أنّ ثلاثية “التنمية الاقتصادية” و“محاربة الإرهاب” و“إرساء الديمقراطية التشاركية والتعددية” فرضت نفسها على الأولويات مجبرةً المجموعة الوطنية والفاعل الرسمي على الانخراط في ورشاتها الثلاث دون تقديم واحدة على أخرى، ناهيك عن التضحية ببعد إصلاحيّ على حساب آخر.

ولئن كان المقتضى يفرض التجميع بين الأبعاد الثلاثة، فإنّ استحقاقات الواقع وإكراهات الراهن حتّمت مقارعة الإرهاب في الأحراش والمدن وفرضت تأمين المسار السياسي والمدني، غير أنّ منظومة التنمية الشاملة ومقاربة تحويل الثورة إلى ثروة حالتا دون إرساء المطلبيات الاجتماعية المشطة من جهة أولى، وانتهاج سياسة الترقيع بالاقتراض من جهة ثانية.

اليوم، تسيطر مشهدية “التشاؤل” على تونس حيال المؤتمر الدولي للاستثمار، حيث يمتزج التفاؤل بالتشاؤم.

فالتفاؤل مرجعه الأموال المرصودة لتونس والتي ناهزت الثلاثين مليار دينار، إضافة إلى البيئة الاستثمارية التي يعمل الفاعل التنفيذي والتشريعي على إرسائها من حيث مجلة الاستثمار وحزمة الحوافز الضريبية والامتيازات للمستثمرين الأجانب، دون نسيان المشاريع الموعودة لاستنهاض المناطق الحدودية، ولخلق مواطن شغل للشباب التونسي موقد الثورة ولهيب الانتفاضة.

والتفاؤل كينونته أنّ النموذج التونسي في الديمقراطية السياسية والمدنية والإعلامية لن ينجح إلا بمقتضى المزاوجة مع التنمية الاقتصادية، وهو اضطرار سياق واستدرار تلازم وليس بأي حال من الأحوال استجلاب خيار، فليس في تونس اليوم ترف الخيار أو الاجتباء بين الفرضيات.

أمّا التشاؤم الذي يتخفّى وراء خطاب الإيجاب، فمكمنه أنّ هذا المنتدى وبفلسفته التأسيسية القائمة على التوظيف الناجع لأموال الاستثمار، تأخّر كثيرا عن تونس الثورة. ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ المنتدى وعلى أهميته في هذا السياق الراهن، تأخر 5 سنوات كاملة، حيث كان من المفروض عقده في بواكير الانتفاضة التونسية حين كانت اللحمة الاجتماعية والسلم الأهلي في أوجهما و“الاحتمال الجمعي” و“المصابرة التشاركية” في قمتهما.

قد يكون الزمن الثوري واحدا من أهم العقبات التي قد تحول دون تحقيق المنتدى لأهدافه، حيث أنّ القدرة الجماعية على الاصطبار ومواجهة المشكلات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي أضرت بالمقدرة الشرائية وفرضت انسداد الأفق أمام العاطلين عن العمل، باتت اليوم، أي القدرة على التحمّل، في وضع لا تحسد عليه.

وبين مقاربة الاستثمار المبنية على الزمن التنمويّ، المستغرق للسنوات إن لم نقل العقود، وبين المطلبية الفورية لمئات الآلاف من الشباب التونسي، تبدو الهوّة الزمنية كبيرة بحيث يصعب جسرها جزئيا أو كليا.

بعيدا عن خطاب الاحتفاء ومعجمية الاحتفال، فإنّ نجاح المنتدى من عدمه مرتهن لا فقط بإيفاء المتعهدين لعهودهم بضخّ الأموال وإنجاز المشاريع، وإنما بملامسة الشاب العاطل عن العمل لبصيص الأمل في استيفاء الكرامة الاجتماعية والاقتصادية عبر بوابة الشغل أو الاستثمار لحسابه الخاصّ.

السقوط في فخّ ضخّ “الآمال بقدر الأموال” قد يعني استدارة الآمال إلى آمال شعبية تنضاف إلى قائمة الأحزان العادية في تونس ما بعد الثورة، لتفتح معها فرضيات غضب جماعيّ غير عادي. كما أنّ التعامل مع الحدث من زاوية “الخبر الهامشي” الذي لن يغيّر من منظومة الواقع شيئا هو استدرار لثقافة الهزيمة الجماعية والدفع نحو المجهول.

تونس اليوم في حاجة إلى منتدى للاستثمار في الذكاء الجمعي وفق مقولة الشخصية القاعدية، حيث تحضر مقولة النمذجة الاقتصادية في التعامل الحصيف والكيس مع قلة الموارد الطبيعية والنقدية.

تونس في حاجة إلى منتدى للاستثمار في السلم الاجتماعي بين الفاعلين الاجتماعيين والفاعل الرسمي، حيث تحضر التنازلات الجماعية والعدالة في التضحية لصالح الوطن على حساب القطاع. تونس في حاجة إلى مؤتمر لاستثمار النجاح السياسي لتأمين الانتقال الاقتصادي والنجاح المالي.

تونس في حاجة إلى مؤتمر جمعي لعدم الاستثمار في أوجاع الوطن ولعدم الاستثمار في الدمار الجماعيّ.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات