عن قناع الكفاءات المزيف

Photo

أنتجت ثورة 14 يناير 2011 في تونس “نخبة” سياسية تتعامل مع السلطة والحكم بمنطق براغماتي بحت، فلأجله تتجمّل بعناوين التكنوقراط والبيروقراطية، وفي سبيل استرداده تسقط الأولى وتصنع أحزابا وتشكل تكتلات ومنظمات، منغمسة في العمل السياسوي إلى درجة التيه بالمناصب. كشفت الأحداث السياسية ما بعد 14 يناير أنه لا وجود لحزب “الإدارة” وتيار التكنوقراط في تونس الذي كثيرا ما اصطبغ به الوزراء في حكومات الاستقلال والرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وصولا إلى عهد الثورة.

فلئن كان التكنوقراط يتخفون وراء ستار الكفاءة العلمية والمهنية في عهدي الحبيب بورقيبة وبن علي للوصول إلى الوزارة والإدارة، دون الاستزادة برصيد كبير من التنظّم الهيكلي صلب الحزب الحاكم، فإن سليلي تيار “البيروقراط” عقب 14 يناير باتوا يتوسّلون بقناع التأهيل الأكاديمي والإداري لتأمين الإجماع عليهم من قبل الأحزاب.

المفارقة أن ذات التكنوقراط، يصبحون بعد خروجهم من الوزارات من مؤسسي الأحزاب السياسية ومن مهندسي التكتلات المعارضة بل ويسقطون في الكثير من الأحيان في الدمغجة والأدلجة.

وسواء قاربنا الأمر عبر عيّنة تكنوقراط بورقيبة وبن علي أو كفاءات الثورة، فإن الخيط الناظم بينها كامن في تعامل هؤلاء الوزراء مع الشهادات العلمية والتجارب المهنية من زاوية البراغماتية والذرائعية للوصول إلى كرسي الإدارة والوزارة، ومقاربتهم إياها، لا سيما زمن الثورة، عبر منطق الرصاصة الأخيرة وعود الثقاب، إذ سرعان ما يستعاض عن الكفاءة بعد الخروج من باب الوزارة بالتشكيلات السياسية وبالدعاية الحزبية القائمة على إكراهات التناقض مع الآخر والمبنية في بعض الأحيان على غرائزية البقاء والاغتيال المعنوي.

لو كانت الكفاءة مبدأ وغاية وجوهرا لما استبدلت بالعمل السياسي المباشر، ولكن طالما أنها كانت وسيلة ومبررا فمن طبيعة المطية أن تتغير بتغير الهدف.

قليلون هم من نجحوا في امتحان الكفاءة الأخلاقية، حيث كانت الكفاءة العلمية والتجربة المهنية العنوانين الوحيدين لتبوؤ المقعد الحكومي، ورفضوا أن يرجعوا إلى الحكم من نافذة العمل السياسي بعد أن دخلوه من باب الإدارة التونسية.

ليس من باب الإنصاف الفكري رفض المزاوجة بين الكفاءة الإدارية والقدرة على العمل السياسي، بل قد تكون المواءمة بينهما خزانا استراتيجيا وبشريا وفكريا للبلاد والعباد ولكن دون أن تتحول هذه الروافد إلى عناوين براغماتية تتغير بتغير السياق والاستحقاق، فليس من الميثاقية الأخلاقية في شيء أن يطمس الانحياز السياسي ويغلب الجانب الإداري عند الضرورة البيروقراطية، وعند المطلبية السياقية بالكفاءة ترفع الشهادات والتجارب والسير الذاتية وتختفي بطاقات الانخراط في الهياكل السياسية.

ياسين إبراهيم، سعيد العايدي، رافع بن عاشور، أسماء لوزراء دخلوا إلى دوائر اتخاذ القرار باسم التكنوقراط، وما لبثوا أن عادوا إليها باسم الانتماء الحزبي، إما لنداء تونس وإما لحزب آفاق. فيما يستعد المهدي جمعة، الرئيس الأسبق لحكومة التكنوقراط، لاستحضار السيناريو السياسي للباجي قائد السبسي أول رئيس حكومة كفاءات في تونس.

فكلاهما خرج من قصر الحكومة برأسمال رمزي واعتباري محترم تحت مسمّى حماية المرحلة الانتقالية وتأمين الانتخابات، وكلاهما خاطب مباشرة العواصم الغربية والعربية باسم المؤتمن على الثورة الشبابية وباسم الزاهد في الحكم والمنقذ للبلاد والعباد، وكلاهما أيضا بدأ بعد الانتخابات في مغازلة الرأي العام تارة تحت مسمّى الإحساس بالنبض الحقيقي للشباب، وتارة تحت عنوان أخطاء الحكومة اللاحقة في إكمال مسيرة الحكومة السابقة.

وكما نجح السبسي في الوصول إلى قصر قرطاج على جناح تكتل سياسي هجين بروافد متباينة حد التناقض، يبدو أن المهدي جمعة يعمل على ذات المشروع السياسي، كتلة مدنية شبيهة برحلة المحطة الواحدة تتكفل بإيصال الطامح إلى معانقة كرسي الرئاسة والسيادة والقيادة من جديد قبل أن تتآكل الشقوق وينهش جوعى السلطة لحم بعض.

إلى هذه اللحظة لا تزال الثورة التونسية عاجزة عن اجتراح القيادة اللازمة لهذا الظرف، لا لعدم وجود قيادات سياسية وإنما لانعدام أخلاقيات القيادة وميثاقية السيادة ومبدئية الشفافية بين الفاعل السياسي والجمهور. وجه من وجوه المأساة في الفاعلين السياسيين بتونس أنهم “كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن”.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات