• إشكال تونس الأوّل أنّ استحقاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والإستراتيجية أكبر بكثير من إمكانيات الأحزاب الحاكمة والتشكيلات الحزبية المسيطرة على المشهد السياسي.
• إشكال تونس الثاني أنّ “عقلها” يريد أن يحكم برلمانيا في حين أنّ وجدانها المتشكل وفق مقولة التراكمية السياسية ومسلكية إدارة البلاد يفضي إلى النظام الرئاسي.
• إشكال تونس الثالث أنّها عوضا عن “تقنين” المؤسسات الديمقراطية فإنها تعمل اليوم على مأسسة الاجتماعات الثنائية واللقاءات التوافقية بشكل باتت معه “مؤسسة الشيخين” أكبر مؤسسة في البلاد تصدر الأوامر وتشرّع أطر التوافقات وتسقط الحكومات وتأتي بأخرى دون أي رادع قانوني أو مؤسساتي.
لئن كان من حقّ التوافق أن يكون معاضدا لمنهج الحكم ومساعدا في عملية التسيير فإنّ انبثاق “سلطة الشيخين” صار يهدد المسار الديمقراطي الذي اختارته تونس بعد 14 يناير 2011 وبات كيانا هجينا يلتهم الدولة ويستولي على إرادة الشعب في اختيار من يسوسه.
والحقيقة التي لا بدّ للرأي العام المحلي أن يفهمها تكمن في أنّ الباجي قائد السبسي لا يسيطر على مقاليد الدولة التونسية من بوابة النظام الرئاسي القابع والمتربع على منظومة الإدارة الوطنية فقط، بل -وهذا هو الأخطر- أنّه أيضا الرجل الأقوى في مؤسسة الشيخين، وبهذا يستحوذ على سلطتين وصلاحيتين اثنتين، الأولى تراكمية “رئاسية” والثانية هجينة مركبّة نشأت عقب لقاء باريس في 2013 وتكرست حقيقة واقعة في 2014.
وفق هذه الثنائية بالإمكان أن يفهم المتابع للشأن التونسي الصلاحيات الواسعة التي وفقها يتحرك الباجي قائد السبسي سواء من حيث إسقاط حكومة الصيد وتكليف يوسف الشاهد بتشكيل أخرى، أو باقتراح الأسماء “الثقيلة” من نداء تونس لترؤس الحقائب الوزارية السيادية. الورطة الحقيقية التي تقف اليوم أمام السيد يوسف الشاهد كامنة في أنه مسؤول أمام عدّة أطراف، من بينها السلطة التشريعية حيث بات من الواجب عليه أن يراعي نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومن بينها أيضا السلطة الحزبية للأحزاب السياسية الكبرى، والأهم من السلطتين المذكورتين، سلطة الشيخين كمؤسسة عرفية تسقط توازناتها الثنائية على الشاهد وتفرض حساباتها داخل أحزابها على رئيس الوزراء المكلف.
تتمثل المفارقة في أنّ استحقاقات 2017 الحزبية الضيقة والكامنة في الانتخابات البلدية أساسا وبالتحضير للاستحقاقات البرلمانية والرئاسية هي التي جاءت بيوسف الشاهد كرئيس وزراء من لون سياسي معيّن، فيما الأصل أن تكون الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية العويصة هي التي تأتي برئيس وزراء مختلف عن الشاهد سواء من حيث الانتماء السياسي أو من ناحية التدرج في مقاليد إدارة الحكم.
والمفارقة الأكثر إيلاما أنّه في الظرف الذي يجب أن يكون شكل الحكومة بعيدا كل البعد عن التجاذبات السياسية تأتي حكومة سياسية وبمحاصصة حزبية ضيقة وتدار بعقلية الغنيمة وعينها على الغنيمة المقبلة في الاستحقاق الانتخابي القادم.
ولئن كانت الأوساط السياسية تتحدث عن مغادرة حزب الاتحاد الوطني الحر للفريق الحكومي وتوجهه إلى المعارضة، فهو خيار محكوم بأغراض الحكم ومآرب الانتخابات القادمة وليس متلازما مع سياقات الرفض في المجال الديمقراطي حيث تكون الموافقة والرفض مرتبطين بقوة البرنامج وقدرته على التنفيذ والتكريس.
وعندما تتحوّل الدولة إلى كعكة وتسوس ثقافة الغنيمة مجالات الإدارة والحكم، وتغيب الكفاءة في مقابل المحاباة وتتفوق الديمقراطية الانتخابية على الديمقراطية التشاركية، ويقع الاستقواء بنتائج الانتخابات لتأبيد الفشل في الحكم وتبرير العجز في السلطة فإن مقومات الرفض الشعبي تقوى وتستفحل وتصبح الانتفاضة بديلا حقيقيا في ظل انعدام البدائل الحقيقية وقصور الحلول المطروحة أمام الرأي العام.
إن كان من بدايات للحل في تونس اليوم، فلتكن بتفكيك مؤسسة وسلطة الشيخين أوّلا المرتبطتين بثقافة الشخص في الانثروبولوجيا السياسية التونسية ومن ثَمّ تكوين حكومة تكنوقراط حقيقية تعمل على التحضير للانتخابات البلدية ومن بعدها البرلمانية والرئاسية وتضع الأولويات الحقيقية للبلاد لا أولويات الأحزاب التي تسخّر الدولة لتأمين مصالحها الضيقة.