أزمة حزب نداء تونس المتشابكة تمثّل أخطر معضلة سياسية تواجه البلاد اليوم، وتنذر بوضع المشهد السياسي برمته في الهاوية السحيقة.
ذلك أنّ مشكلة نداء تونس ليست مشكلة حزب عادي يعيش على هامش التجاذبات السياسية أو حزب يتغذّى من الأطروحات الأيديولوجيّة لاقتلاع منصب أو منصبين نيابيين في البرلمان. المشكلة تمسّ منظومة حكم برمتها فيها من “بانوراما ثلاثية، باردو والقصبة وقرطاج” الشيء الكثير، وفيها من تشكيلة وشكل المعارضة الشيء المعتبر أيضا.
فالحزب الذي لم يكد يتجاوز الانشقاق الأوّل مع محسن مرزوق والذي حوّل نداء تونس من حزب صاحب أغلبية في البرلمان والحكومة إلى حزب ثان بعد حركة النهضة، أدى في المحصّلة إلى تغيير حكومي شامل تكون بمقتضاه حركة النهضة المسيطر على دواليب الحكم ولكن دون تبوأ للمقاليد الأساسيّة في الحكم، وهو الأمر الذي تبتغيه النهضة تكتيكيا واستراتيجيا في مرحلة الاستنزاف الذي يعيشه نداء تونس.
هذا الحزب يعيش مرحلة السقوط الثاني، إذ من الواضح أن جبهة رفض حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس الباجي قائد السبسي، تنذر بانشقاق ثان في الكتلة المتبقية من خروج مرزوق، وهو انشقاق أشار إلى احتمال وقوعه النائب عن حركة نداء تونس منجي الحرباوي الذي اعتبر أنّ الهوّة السياسية في اتساع مطرّد بين السبسي النجل وقيادات ندائية من الصفّ الأوّل.
ودون الدخول في طيّات الخلافات السياسية، من الواضح أنّ جوّا من انعدام الثقة يسيطر حاليا على المطبخ الداخلي للنداء، فالاتهامات المتبادلة بين طرفي النزاع السياسي الحالي، إضافة إلى الاستنجاد المستمرّ والمتكرّر بيوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالي والمقرّر أن يكون خارج التجاذبات السياسية جميعا ناهيك عن المناكفات السياسية داخل حزبه، تشير إلى فقدان الحزب للشخصية الميثاقية القادرة على تكوين توافق سياسي حزبي حوله.
كما يشير هذا الاستنجاد بيوسف الشاهد إلى نضوب الأوزان السياسية الكبرى في الحزب على أنقاض التجاذبات الداخلية، حيث أنّ الاستصراخ برجل سياسي فشل في مهمّة الحيلولة دون الانشقاق الأوّل لجسر الهوّة المتراكمة، يدلّ على أنّ الحزب الذي يعيش أزمة الحياة والاستمرار يعرف أزمة الطبيب وأزمة الدواء والترياق بالضرورة.
يبدو أن مشكلة الهيئة السياسية في حزب نداء تونس، باتت الإرهاق المزمن للحزب الذي تشكّل وفق منطق الكتلة التاريخية القائمة على تجميع كافة الحساسيات السياسية والروافد الفكرية لتأمين هدف سياسي استراتيجي واحد كامن في إسقاط حركة النهضة ومن ورائها الترويكا من الحكم.
وعلى عكس حقائق المقتضيات السياسية حيث تتلاشى الكتلة التاريخية بمجرّد تحقيق الهدف التاريخي، بقي نداء تونس في شكل هجين، فلا هو بالكتلة التاريخية السياسية التي تضمحلّ باضمحلال المبتغى، ولا نجح في التحوّل إلى حزب سياسي عادي مشارك في العملية السياسية وتكون أولى ارتسامات تصييره إلى تنظيم كامنة في الدعوة إلى مؤتمر انتخابي شامل يقترع من خلاله أعضاء الحزب ممثليه في المجالس السياديّة لنداء تونس.
الأزمة الجديدة التي يتخبّط فيها نداء تونس ستؤثر بالتأكيد على العمل الحكوميّ وعلى الأداء البرلماني للكتلة النيابية لا سيما وأنّها تعرف إشكالا في رئاستها وفي مكتبها أيضا، وفرضية أن تنفرط الكتلة إلى تكتلين اثنين قائمة بقوّة، ذلك أنّ الاختلاف وصل إلى حدّ توجيه الاتهامات والتباين بلغ مستوى الانقسام التناقضي بين الطرفين.
ترحيل الأزمة السياسية إلى الباجي قائد السبسي أو إلى يوسف الشاهد لن يجدي نفعا، مع استمرار إشكالية “التوريث” و“الشخصنة” التي تتغذّى من تراكميّة سياسية محليّة أرست معالم رفض الزجّ بالعائلة ضمن منظومة الحكم إلا بمقتضى الشرعية والشعبية السياسية التي تنطق بها المؤتمرات الانتخابية للأحزاب.
على وقع سقوط وترهّل التكتلات السياسية الكبرى، من الجبهة الشعبية إلى نداء تونس، تراقب حركة النهضة استدارة المشهد لصالحها وتنتظر بفارغ الصبر الانتخابات المحلية للسيطرة على المجالس الأقرب للمواطن والمتاخمة لمشاكله المعيشية معيدة بذلك شحن خزانها الشعبي.
مرة أخرى تستفيد النهضة من ضعف الآخرين وأخطائهم وتسجّل نقاطا في شباك أشباه اللاعبين والتائهين عن الملعب.