إسرائيل والدولة الناقصة في العالم العربي

Photo

مثلت الحكومات الصهيونية على مدى أكثر من خمسين سنة خزانا استراتيجيا من البراديغمات السياسية والمفاهيم الاستراتيجية التي تجسّد موازين القوى في المنطقة العربية، وتجسّم التمثل الإسرائيلي لمستقبل الشرق الأوسط وجوهر السياسات الإسرائيلية حيال “جيران الطوق”.

منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، خرج الفاعل الرسمي العربي من حقل صياغة المفاهيم السياسية والعسكريّة، حيث انحسر عمله في توصيف الأحداث الكبرى، من دون انكباب على التفكير الاستراتيجي العميق في الأحوال القائمة والتداعيات القادمة.

كان الانسحاب العربي من الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد إيذانا بتعطّل الجهاز المفاهيمي الاستراتيجي، ذلك أنّ اللسان انعكاس لما يعتمل في الميدان والوجدان، وعند تحوّل الفضاء العربي إلى ملعب عسكري واقتصادي وسياسي وحتى دستوري للاعبين الإقليميين والدوليين، فإنّ اجتراح العبارات التفسيرية والبراديغمات التحليلية يصبح بيد الفاعل لا المفعول به.

أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واحدة من أخطر العبارات السياسية والاستراتيجية التي تهم الصراع العربي الصهيوني بكلياته لا بمحلياته الفلسطينية، ذلك أنّه وللمرة الأولى، تقريبا، في الخطاب الإسرائيلي يُستخدم مصطلح “الدولة الناقصة” للتعبير عن شكل الإدارة السياسية التي تحبّذ تل أبيب مجاورتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

صحيح أنّ العبارة استخدمت للإشارة إلى كينونة “الدولة” الفلسطينية “النموذج” إسرائيليا فيما يخصّ المحافظة على المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية، وضمّ القدس الشرقية إلى الغربية واعتبارها عاصمة للدولة اليهودية القومية، مع تأمين السيادة الصهيونية على كافة مداخل ومخارج ومعابر الدولة الفلسطينية الوليدة. غير أنّ الأصح مما سبق كامن في أن النموذج يمثّل براديغما وفلسفة ومصلحة إسرائيلية عليا يراد تعميمها على كافة الدول العربية برمتها، وليس فقط في فلسطين المحتلّة.

ولئن حدّدنا مفهوم “الدولة الناقصة” في كينونة السيادة المخترقة والقرار السياسيّ المصادر وضعف مؤسسات الدولة والجغرافيا الرخوة، فإنّ التحليل لن يجانب الصواب إن اعتبر أنّ إسرائيل عملت ولا تزال تعمل على تعميم هذا النموذج في كامل محيطها، سلما كان أو حربا أو تورطا غير مباشر في الجغرافيات العربية الحارقة والمارقة.

كان اتفاق كامب ديفيد في 1978 مع مصر أنور السادات، مقدمة لوضع “المحروسة” على قائمة الدول ناقصة السيادة على جغرافيتها، حيث فرض الاتفاق الأمني شروطا مجحفة على الجانب المصريّ حالت دون تأمين سيادته الكاملة على أرض سيناء، وهو الأمر، إضافة إلى مقدمات أخرى، الذي صيّر اليوم شبه الجزيرة إلى جغرافيا رخوة تثبّط كافة الجهود في تأمين البلاد والعباد.

وفي جانب من الجوانب أيضا، شكّل اتفاق وادي عربة مع الأردن في 1994، إرهاصا حقيقيا للدولة الأردنيّة ناقصة السيادة على مياهها وثرواتها، بل وحتّى على أرضها التاريخية (الباقورة على سبيل المثال)، أمّا اتفاقية أوسلو 1993 مع منظمة التحرير الفلسطينية فلا يحتاج المحاجج لأدلة على كينونتها التبخيسية لنظام الحكم الفلسطيني من سلطة إلى إدارة محلية، ومنها إلى كنتونات تنفيذية لا تحكم ولا تتحكّم في شيء على أرض ما تبقى من فلسطين التاريخية.

يمثّل الدعم الإسرائيلي لبعض الميليشيات الإرهابية السورية في الجولان تكريسا لمقولة الدولة السورية ناقصة السيادة، لا سيما إن تدعّمت هذه العبارة بتدخّل روسي وصل إلى درجة بناء القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية، وصياغة مسودات الدستور الجديد وتشكيل نظام الحكم في دمشق، وبانخراط إيراني وتركي وتحرّش أميركي.

عبارة الدولة الناقصة استصحبتها إسرائيل عند اغتيال المهندس التونسي الشهيد محمد الزواري، موقعة برصاصات الغدر مقولة الدولة القاصرة عن تأمين الحماية لأبنائها من مخططات الصهاينة.

المفارقة أنّ الدولة الناقصة باتت الخيط الناظم لمعظم الأقطار العربية، والمقولة الأكثر انسحابا على عواصم الربيع العربي.

وفي الوقت الذي تشرع فيه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية لنموذج “الدولة السيدة” ضمن إجراءات الحماية والتأمين الداخليّ، تفرّخ في العالم العربي المقولات التناقضية للسيادة وتوضع كافة المقدمات، إمّا للدولة الناقصة وإما للدولة الفاشلة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات