نصف تونسي نصف فرنسيّ، قد تكون هذه المعادلة هي الأنسب لتصبح وقودا سياسيا للتيار اليميني المتطرف في حملته الانتخابية الفرنسية القادمة، في شقيها الرئاسي والبرلماني، إضافة إلى إعطائها زخما دعائيا جديدا لدعواته إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبيّ.
لم تنتظر مارين لوبان رئيسة الجبهة الوطنية – أقصى اليمين المتطرف – كثيرا لتوظيف حادثة نيس الإرهابيّة والتي ذهب ضحيتها نحو 100 بريء، من بينهم عرب ومسلمون وتونسي واحد على الأقلّ، في حربها الدعائيّة والانتخابية القادمة والتي ستخاض تحت عناوين “الهويّات القلقة” وسؤال “محاربة الإرهاب” و“استحقاقات حقوق الإنسان في مقابل حقّ الأوطان”.
من الواضح إذن أنّ السياسة الفرنسية المعتمدة منذ أزيد من عشر سنوات على الأقلّ للإدماج الاجتماعي وتكريس مفهوم الهويّة الوطنية انطلاقا من مقاربة “الإسلام الفرنسي” المتصالح مع العلمانية ومبادئ الجمهورية لم تفلح في إقناع الكثيرين من الشباب الفرنسيّين المسلمين ذوي الأصول العربية بالنأي عن مسلكيات العنف والتطرّف والتكفير، إذ أنّ حالة التهميش الاجتماعي والإقصاء التي يعيشها الشاب الفرنسي ذو الأصول المهاجرة في الأحياء المعدمة والفقيرة، تضاف إليها الدعاية الإرهابية الافتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي مثلتا أهمّ الأسباب التي سمحت لنحـو ألف مقـاتل فرنسيّ بالتوجّه إلى سوريا والعراق للقتال مع الجماعات التكفيريّة وعلى رأسها تنظيم داعش، وبدرجة أقل جبهة النصرة، وقد قتل منهم حوالي مئة جهادي إلى حدود نهاية عام 2015.
ولئن دقّت أجهزة المخابرات الفرنسية أكثر من مرّة ناقوس الخطر حيال وضعيّة السجون في البلاد، حيث الاكتظاظ الكارثيّ وخلط سجناء الحقّ العام بسجناء الإرهاب، فإنّ كافة الخطوات التي اتخذتها حكومة مانويل فالس في هذا السياق كانت أقلّ من المأمول بكثير.
والإشكال الأكبر أنّ الدعاية اليمينية المتطرفة ستعمل على إثارة الاحتقان الاجتماعيّ، وعلى إرساء سياسات الهويّة الأحاديّة في فرنسا التي تهدّد فعليا التنوّع الثقافي والإثني المؤصل للهويّة الفرنسية.
المفارقة أنّ تنظيم داعش واليمين المتطرّف الأوروبي يكمّل أحدهما الآخر، فلئن كان الأوّل يعمل جاهدا على تعميم الظاهرة الإرهابية على المسلمين وقولبة الإسلام ضمن مقولات التكفير وقطع الرؤوس وسبي النساء واستغلال الغلمان، وبالتالي فهو يخرج من التاريخ إلى مقولة نهاية التاريخ، فإنّ الثاني يبني سياسات التضييق على الهجرة ويكرّس فكرة العنصر النقيّ ويجذّر السرديّات العرقيّة تأسيسا على ديباجات الدواعش في حقّ الإسلام والمسلمين.
من الواضح أنّ اليمين المتطرف، وكعادته، سيعمل على استغلال حالة القلق الرهابيّ من المسلمين سواء منهم المهاجرين الجدد أو القدامى، بعد أن تعددت العمليات الإرهابية ضدّ فرنسا والتي تضرب في العمق الأماكن الاستراتيجية والأزمنة الرمزية.
وسيحوّل اليمين المتطرّف حالة القلق الغريزي إلى حملة دعائيّة قائمة على “الأمن الواهم” و“الهويّة الأحاديّة الوهميّة” أيضا، سيحصد نتائجها سواء في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانيّة.
وقد لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ الانتخابات القادمة ستكون حصرا بين اليمين واليمين المتطرّف أي ما بين جبهة مارين لوبان وجبهة فرنسوا فيون، مزايدة على التضييق على المهاجرين وعلى حريّاتهم الثقافية.
وكما يستفيد اليمين المتطرّف من الإٍرهاب، فإنّ الأخير بدوره يستفيد من سياسات أقصى اليمين حيث يقدّم ويسوق التضييق على الحريات الدينية ضمن خطاب تبريري تفسيري مقيت للانتقام المعنوي من الدولة والثأر المادي من المجتمع.
وفي تقديرنا فإنّ التعويل على اليمين الديغولي أو اليمين الشيراكي – نسبة إلى الرئيس الأسبق جاك شيراك – بات ضربا من السراب السياسيّ بعد أن ضعفت كتلة الوسط في الاتحاد من أجل الجمهورية لصالح اليمين الهوياتي.
قد يكون الإرهاب معولما، ولكنّ ضرباته دقيقة ومحسوبة ومضبوطة جدّا، ذلك أنّه ليس من باب الصدفة أن يطلق القيادي الداعشي أبومحمد العدناني العنان للذئاب المنفردة للضرب في الأماكن التي تتواجد فيها، وعلى رأسها فرنسا.
فباريس التي تتزعّم التحالف الدوليّ لضرب الإرهاب في سوريا والعراق والتي أرسلت باخرة شارل ديغول الشتاء الفارط لضرب الرقة والموصل، والتي شنّت لوحدها 72 غارة بين يناير وفبراير ومارس الماضية ضدّ معاقل الدواعش، يمثّل أيّ اختراق أمني لها اختراقا لمنظومة التحالف الدولي برمته وإسقاطا لرمزيته المادية.
وقد يكون التنظيم يبتغي أيضا إبراق رسالة إلى التحالف الدولي مفادها أن إسقاط دولته المزعومة في الرقة والموصل لن يؤدي إلى إسقاط التنظيم، بل إن منظومة العمل الزئبقية قد تعينه على المراوغة والمباغتة والضرب في عقر الديار.
وهي بالضبط كينونة الرسالة التي أبرقها التنظيم الإرهابي للقيادة العراقية من خلال عملية الكرادة، وللقيادة السعودية في عمليات المدينة المنورة وجدة، وللقيادة الليبية في بنغازي وطرابلس، وهو ما يقوم به حاليا في نيس.
خراج كل عملية إرهابية داعشيّة أو غير داعشية، تضييق على الهجرة والحريّات للأقليات المسلمة، وتصديق لمقولات اليمين المتطرف عن الإسلام والمسلمين، ومكاسب انتخابية للجبهات اليمينية تبدأ من الاستحقاقات البلدية المحلية، وتمر عبر الاستحقاق الرئاسي والبرلماني ولا تنتهي عند الخروج من المنظمات والتجمعات الإقليمية، وهو ما لا نستبعده في فرنسا وفي غيرها أيضا.