باتت تونس اليوم في مربّع اللاخيارات واللابدائل حيث استنزفت كافة الأطراف، المسؤولة منها والنقابية والاجتماعية، خزانها الاستراتيجي من التنازلات واصبحت تقدم على سياسات صدامية تعبّر بشكل من الأشكال عن خيار الصفر حلول.
مسلكية الصفر حلول أصبحت السياسة المعتمدة اليوم من طرف حكومة يوسف الشاهد حيث يستحيل التقشف والضرائب وتجميد الزيادة في الأجور خيار اللاخيار لحكومة لم يترك لها الاتحاد العام التونسي للشغل الوقت الكافي لتنفذ المطالب بعدالة التحصيل الضريبي وذهب مباشرة إلى المطالبات المالية.
مسلكية الصفر حلول هي أيضا المنظومة المعمول بها من قبل الأطراف النقابية ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد أن أعلن الإضراب العام في كافة المؤسسات العمومية والخاصة يوم الثامن من ديسمبر القادم، فيما أطلق عليه الرأي العام المحلي بـ“الخميس الأسود” في استحضار لمشهدية التأزم والتباين بين الاتحاد العام للشغل والحكومة ذات شتاء ساخن في عام 1978.
وليس ببعيد عن خيار الصفر حلول يقف اتحاد الأعراف منددا بمشروع الميزانية لسنة 2017، وهو نفس الأمر تقريبا لاتحاد الفلاحين والصيادين. وفي مشهدية المأساة الملهاة يسند الجميع في تونس اليوم ظهره إلى حائط المبكى الاجتماعي مطلقا رصاصته الأخيرة ومستنزفا معها بنك أنصاف الحلول المعمول بها منذ سنوات “الربيع التونسي”.
يدرك الاتحاد العام التونسي للشغل أن زمن التضحيات الجزئيّة لشريحة اجتماعية مهترئة، تمثّل خزانه الاستراتيجي، ولّى عهده، كما يعرف أنّ الحكومة غير قادرة في ظل الوضع الراهن، وفي وقت قصير، على أن تفرض العدالة الاجتماعية على كافة أبناء الشعب التونسي.
المفارقة أنّ الفاعل الرسمي، الذي لعب منذ 2011 دور الإطفائي الاجتماعي والاقتصادي عبر إغراق الوظيفة العمومية وتحويل العفو التشريعي إلى بيضة من ذهب لمناضلي الأمس والشطط في سياسة التداين والاقتراض، هو ذاته الذي يلعب اليوم دور مشعل فتيل الأزمة الاجتماعية الحارقة والملتهبة من خلال رفض فتح الملفات الحقيقية القادرة على استدرار الموارد المالية اللازمة للبلاد والعباد.
كثيرا ما تختار الحكومات أنصاف التسويات، وقليلا ما اجترحت الحلول الراديكالية والجذريّة، فمن سياسة اليد السفلى للجهات الدولية المانحة إلى سياسة اليد العليا المقتطعة لجزء معتبر من الجرايات العمومية، ومن سياسة استدرار التضامن الدولي لضمان ديمومة الاقتراض إلى سياسة تنظيم المؤتمرات الدوليّة التي ستكلّف الخزينة العامة مصاريف ضيافة وسياحة أكثر مما ستجود به الأيادي الأجنبية المترددة والألسنة المتلعثمة…
تأتي الدعوة إلى الإضراب العام يوم الثامن من ديسمبر المقبل كإعلان شبه قطيعة مع الفاعلين التنفيذيين. والمفارقة أنّ قناعة كبيرة لدى الرأي العام المحلي كامنة في أنّ الدعوة إلى الإضراب العام لن تغيّر في الواقع الاجتماعي شيئا، لا فقط لأنّ الدولة ذات صفر حلول اقتصادية، ولكن أيضا لأنّها اختارت، مكرهة، مسلكية الاستنزاف.
شهر يناير مرتبط في الذاكرة التونسيين بقابلية الانتفاضة والجاذبية نحو التمرّد والميل للرفض الجمعي. وتثبت القراءة الاقتصادية أنّ الدولة تعيش اليوم وضعية “كش حكومة” فأي خطوة غير محسوبة إلى الأمام تعني إعلان الإفلاس الرسمي.
وتشير المقاربة السياسية إلى أنّ ما بعد الإضراب العام سيكون مخالفا تماما وأخطر من الإضراب العام بحدّ ذاته. وتبرهن الإنثروبولوجيا الاتصالية والمعرفية المحلية أنّ ذكاء جمعيا كان ولا يزال يحول دون سيناريو الدولة الفاشلة والمفلسة في البلاد… ليبقى السؤال كيف سيتكرّس وبأي وضعية وبأي تنازلات أيضا؟