لتفكيك ظاهرة "داعش "، ليس من حيث النشأة التي تتقاطع إلى أربع مستويات، أمريكية، خليجية، إيرانية وسورية، بل من حيث أفكارها وممارستها التي تتخذ من العنف في أقصى مظاهره الرسالة الأكثر تداولا في وظيفتها. لابد من الوقوف مليا مع هذا الأسلوب الهوليودي في التنكيل بمن تعتبرهم أعداءها. وهو أسلوب يناقض الدين. وهنا رد غير مباشر على الذين يرجعون مرجعيتها إلى الدين الإسلامي، لأنهم ببساطة يعتمدون المقاربة الإنتقائية والتجزيئية، بينما الدين شمولي المنزع وكلي المنشأ والهدف. أو تاريخية فيعيدون شريط الأحداث إلى ما يفوق أكثر من عشرة قرون، بينما تاريخ ستالين وهتلر وميلوزفيتش وجرائم جيش الرب وإسرائيل أقرب إلينا، ناهيك عن عصر الظلمات الذي عاشته أوربا في القرون الوسطى. أما إبادة الهنود الحمر في أمريكا والسكان الأصليين في أستراليا، فهي ثابت تاريخي. لكنهم جميعا يقفزون على هذه الحقائق التاريخية. وهذا من شأنه أن يعين مكامن الخلل في مقارباتهم وكتاباتهم.
إن داعش لا تمت إلى الاسلام بصلة، كما هو مبين في القرآن والسنة، والقاعدة هنا قول الرسول الكريم صلى الله عليه والسلام "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض". وهذا مصداقا لقوله تعالى "أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" سورة البقرة -الآية 85-، وكما هو مقرر في علم الأصول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ قد يكون بعض المرضى إلى أسباب نزول الآية، ويتغاضون عن دلالتها الكلية والجامعة.
داعش وعكس المقاربات اليوتوبية التي تدعي أن قوتها في فكرها، فإن قراءة هذا الفكر تصيب صاحبها بالغثيان، لضيق أفقها ولونها الأحمر القاني. فكيف سيرتد إنسان القرن الواحد والعشرين إلى فكر ظلامي أسود كالح بهذه السهولة؟ هذا السؤال وجب طرحه في إستحضار كلي لما يعيشه العالم من عملية تواصلية غير مسبوقة، حيث تهاجمك الحرية والديمقراطية وجميع مظاهر التعايش الإنساني، سواء في التلفزة أوعبر جميع وسائط التواصل الإجتماعي التي باتت المهيمن الأول على إهتمامات ومتابعات الإنسان المعاصر في جميع أصقاع العالم. كيف إذن أمكن تدجين وتنميط أفكار الشباب والشابات العرب والمسلمين فقط؟
إنها أسئلة حارقة، تطرح نفسها علينا ونحن نقصف بكل هذه الأحداث الكريهة التي لايكون أبطالها إلا عرب ومسلمون. هل تم عزل العالم العربي والإسلامي رغم الفروقات الهائلة، عن باقي العالم؟ أم أن الأمر أكبر بكثير مما نستطيع مقاربته و تحليله؟. ومن أين أتت قوة داعش والقاعدة في شهر أكتوبر2015 مثلا. حيث إستطاعا أن يهزا العالم في أعنف موجة إرهابية في وقت تزامني قصير. العراق، لبنان، فرنسا، مالي، نيجيريا. ناهيك عن أخبار احباط أعمال إرهابية أخرى بتونس والكويت وأنجلترا. نحن إذن أمام قوة جبارة وفورة غير مسبوقة تزحف على العالم من الباب الخلفي بثبات كبير.
لايمكن إغلاق الكتاب قبل قراءة جميع صفحاته وتأويلها التأويل الصحيح. إن داعش كتنظيم إرهابي لا يجد ضالته إلا في ذوي هشاشة معرفية وتربوية، وهشاشة إقتصادية وإجتماعية، وهشاشة سياسية وفكرية.
خارج هذا الأضلع الثلاثة، لايمكن للربط الميكانيكي البسيط أن يقودنا إلى علة إنتشار ظاهرة "داعش". الفقر والإقصاء والتهميش وتجفيف منابع التعليم الحر والعملي لن ينتج إلا مجتمعات داعشية، وإن تغلفت بمظاهر الديمقراطية الشفوية.
من هو مهندس أحداث باريس الإرهابية مثلا لسنة 2015؟، إنه مواطن بلجيكي صرف، مولد النشأة وتعليما وثقافة، لا تربطه بالمغرب إلا زيارات المتقطعة أثناء فصل الصيف. أما إنشغالاته فكل ما تواترعنها من أخبار معظمها شاذة وخارج القانون. متى إنتسب لداعش؟ منذ مدة قريبة. ماذا تعلم منها؟، القتل والسحل والتمثيل بالجثث وتشويه الإسلام والتنكيل بالمسلمين، أما التعبيرات التي نقلها إعلام داعش نفسه، فهي تعبيرات قد تكون مبرمجة لمثل هذا الحدث، وهي وليدة الحسرة التي ولدت حقدا على حضارة لفظته ولم تسعفه في الترقي.
أما منفذ هجمات برلين الإرهابية فحسب شهادات أصدقائه وعائله، كان يعيش حياة منفتحة، يسهر ويعربد، ولما كان في تونس وله عدة قضايا، وإلتحق بداعش بعد أن إستقر في ألمانيا. كما أن التونسي منفذ عملية نيس الإرهابية كان معروفا لدى الشرطة الفرنسية بسبب جرائم جنائية سابقة، ومن خلال هذه المعلومات عن بعض منفذي هجومات باريس ونيس وبرلين يتضح أن الأمر لا يتعلق بالإسلام أو بالمسلمين الملتزمين حرفيا بتعاليم الدين اللإسلامي، بل هم شباب يعيشون تمزقات هوياتية وتقلبات مزاجية، لهم إرتباط نسبي بالإسلام، يسهل تجنيدهم في أي منظمة أوعمل كيفما كان، كلهم إرتبط بداعش وتعلم الإرهاب في الدول الأوروبية.
أين الإسلام كدين للتسامح والتعايش من كل هذا؟، أليس هذا إقحام قصري لدين أهم قواعده "لكم دينكم ولي دين" سورة الكافرون -الآية 6-، "لا اكراه في الدين " سورة البقرة -الآية 256-، "وما أنزلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء -الآية 107-، وغيرها من الآيات المؤسسة للحرية والتسامح والسلام وإحترام معتقد الآخر وقبول الآخر رغم إختلافه.
إن داعش والقاعدة وكل الحركات اللإرهابية عموما، صناعة دخيلة على العالمين العربي والإسلامي، وأي محاولة لإلصاقها بالدين الإسلامي، فهي محاولة قاصرة وغير ناضجة وغير مبررة.
إن كنس ثقافة التسامح والبناء من الدين الإسلامي، وشطب كل مقومات الحضارة والتمدن من قائمته وحدها كافية للتدليل على الإرادة الخبيثة لحشر الإسلام في زاوية التشدد والتعصب والأورثودوكسية المقيتة. من هنا وجب الحذر من تسريبات الإعلام الموجه، كما وجب العمل بجدية لإبراز أنوار الإسلام كما تحدث عنها برنارد شو وغاندي وتولستوي وغارودي ومايكل هارت وغيرهم من النوابغ والمنصفين من شتى الحضارات كثير.
ونختم بقوله تعالى "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ" صدق الله العظيم، سورة الرعد -الآية 17-.