في تونس لماذا نخشى فضح الفساد والمفسدين؟

Photo

أفكر في أمر يحيرني، وهو محض خيال، أحيانا يجنح بي الخيال بعيدا، فأتصور أنني دعيت من قبل لجنة أو هيأة أممية للحديث عن وضع التونسيين المزري، ثم يتحدد السؤال بدقة، وهل هناك أصوات تصرخ وتفضح من داخل تونس ما يحدث هناك؟. أحاول كعادتي أن أبدو واثقا من نفسي وأن الجواب في جعبتي، أفتش بين ثنايا ذهني وأرشيف ذاكرتي فلا أعثر إلا على إسمين، ثم يقفز إسم ثالث، ينتابني الخجل في الرد على السؤال، لكنني أندفع وأبدأ بسرد الأسماء الثلاثة.

ينظر إلي المشاركون بحيرة، يتلقفني أحدهم بسؤال هل هذه الأسماء أمثلة لأسماء أخرى كثيرة، أم هي حصرية؟. هنا أصاب بإنسداد فكري خطير. أحاول حفر طبقات الذاكرة وتقليب أوراق الأرشيف فلا أعثر على شيء، ثم يباغتني الآخر بسؤال مرتبط بالأول، وهل تلك الأسماء مرتبطة بمنظمات أو بأحزاب ضخمة يمكن أن تؤثر في أصحاب القرار؟

تسري في عروقي برودة تكاد تجمد أوصالي، ماذا عساي أقول، بم أجيب؟، إنهم يمثلون أنفسهم بالكاد. هم فعلا يلقون تعاطفا نسبيا من بعض الوجلين الخائفين الذين يجدون في صرخاتهم تنفيسا عن مكبوتاتهم التي يخافون طرحها أمام الناس، لكنهم في النهاية لا يمثلون إلا أنفسهم. يبدو أن اللعبة منتهية، وحتى تلك الأسماء الثلاثة يتم تكميم أفواهها بخلق قضايا جانبية وتافهة يغرقونها فيها بين المحاكم، ويدخلونها في متاهات القلق اليومي والأسري والوجودي، إلى أن يخبو صوتها وتموت رمزيا كأنها لم تكن.

هذه الفكرة فرضت علي نفسها وأنا بصدد إستعراض خارطة الأصوات المستنكرة لما يحدث في البلاد من خروقات وفساد وإهدار للمال العام، وتهميش التونسيين، وإنتهاج أسلوب عنصري في جميع أشكاله؛ من العنصرية الطبقية إلى العنصرية المجالية، وإفساد الذوق العام، وإحتكار جميع المجالات والقطاعات. إنه مرتع فاسد بإمتياز.

لكن أحدا لا يرفع صوته بالإستنكار، خاصة بعد أفول نجم المد الثوري، وإستعادة النظام لزمام الأمور، والإنتقام من جميع الأسماء الوازنة في الثورة. كل الجرائم التي تقع في حق الشعب لا يتم فيها فتح تحقيقات قضائية، سواء تعلق الأمر بالفواجع الطبيعية التي تتغذى من ضعف البنية التحتية، أو تلك المتعلقة بتهريب المحروقات، أوبالإستحواذ على جميع الثروات الطبيعية، أو بسرقة خمس سنوات من الحياة العملية للشباب التونسي الذي هو في حاجة ماسة للعمل وخمسون سنة من حياة عموم التونسيين، أو في توزيع ملايين الهكتارات على المحظيين أيام الديكتاتورية، أو في الإمتيازات الممنوعة لعائلة المخلوع وزوجتة وكل معاونيهم والذين بقدرة قادر تحولو من أناس مستورين إلى رجال أعمال ميسورين والقائمة طويلة، أو من إقصاء أبناء الشعب من الإلتحاق بالوظيفة العمومية، أو سرقة ميزانية الوزارات عبر سرقة محتوياتها وأدواتها، أو بالزيادة في أجور البرلمانيين وإمتيازاتهم الخيالية الخيالية.

فليس عيبا أن تتحول من موظف جمارك أو بالعامية التونسية من "صاحب شهرية" إلى رجل أعمال وتترشح لرئاسة الجمهورية، إن الصورة على العموم سوداء كالحة. هل يمكن الحديث عن مَخرج، وعن حل؟ وكيف ذلك؟. الإنسان بطبيعته كائن إبداعي، يبدع حلوله بطريقة عفوية أحيانا، وبطريقة علمية معقدة أحيانا. لكننا هنا بصدد مشاكل على صعيد بنيتي الدولة والمجتمع.

وهنا تتداخل عوامل كثيرة خفية وظاهرة. بيد أننا اليوم نعيش عصرا مغايرا، عصرا يتميز بتطور هائل على جميع المستويات العلمية و التكنولوجية، ويندر أن تستعصي الإشكالات الإجتماعية المتعلقة بالديمقراطية والعدالة الإجتماعية على الحل. فهناك من جهة ميزانية الدولة التي تخضع لدراسات متعددة قبل توزيعها على مختلف القطاعات و الوزارات، وهناك من جهة أخرى حاجيات الدولة ومستوى عيش المجتمع وعدد العاملين والعاطلين وسقف دخلهم.

فالقضية تتعلق بدراسات دقيقة تأخذ في عين الإعتبار هامش الخلل النسبي، الذي يمكن تداركه كلما تم إكتشافه. بينما هنا في تونس كل شئ منذور للفساد المؤسساتي. فالفساد أصبح هنا مؤسسة قائمة الذات تعمل على إفساد كل شيء يتعلق بحياة المواطن التونسي.

لكن أحدا لا يجرؤ على أن يمس هذه المؤسسة ويشير إليها مباشرة. ومن يتجرأ ويقدم حججا مفحمة على هذا الفساد ولو في عتباته السفلية يتم جره إلى المحاكم بدعوى فضح الفساد، يتم تغطيتها بحجج واهية، وبمبررات لا تنطلي على عاقل.

الجميع يعرف ما يجري، لكن الجميع يعجزعن فضح هذه الإختلالات التي تبقى الدولة أول مرتكبيها وأول المسؤولين عليها، ولكن بعد حملة الإعتقالات التي شملت رجال أعمال ومهربين فهل تشمل الإيقافات سياسيين وخاصة من النواب وإعلاميين لهم علاقة بشبكة الفساد؟ وهل ستطال الحملة كل الفاسدين؟ لتتحول تونس من دولة كانت مدة ستون سنة تحمي الفاسدين إلى دولة تحمي المواطنين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات