تناولت عملية نقد المثقف في البلاد العربية قسما هاما من الدراسات والبحوث، إلا أن قليلة هي القراءات الموضوعية التي رامت عملية النقد البناء الذي يتأسس على النقد السلبي حسب مدرسة فرانكفوت العريقة التي إبتكرت هذا المصطلح. وما يمكن أن يتلقفه ويكتشفه المثقف النبيه، أن معظم الدراسات النقدية لوضع المثقف البئيس، ولحالة الثقافة التعيسة، غالبا ما جاءت كرد فعل عن تهميش أو إقصاء ما.
وربما كان كتاب المفكر والكاتب اللبناني علي حرب المعنون ب"أوهام النخبة أو نقد المثقف"، هو الكتاب الوحيد الذي يعري حقيقة المثقف العربي، ويضعه أمام مرآته الشخصية عاريا من هوية الثقافة ولباسها المعرفي والعلمي والوطني والإنساني؛ ذي الميزة النموذجية والمثالية، ليس من موقع المتعالي والمعلم والمرشد، بل من موقع التجذر الإنساني، بإعتبار أن المثقف هو زبدة المجتمع بوفرة مداركه و معارفه ومعلوماته ومناهجه وتغلغله في كينونة الإنسان، كمفهوم مجرد.
وهو المفهوم الذي لا يمكن بلوغه والوصول إليه إلا بإحتواء المثقف لجميع شرائح المجتمع، وتقمص أدوارها وهمومها وطموحاتها وإنكساراتها وإنتصاراتها. أما عن المثقف الكوني، فذاك شق آخر من التكوين الفردي المنفتح على الإنسان أينما كان، ومحاولة المشاركة والمساهمة في الفعل الإنساني كعطاء يتجاوز حدود الوطن والمجتمع والقبيلة والهوية الضيقة.
وهنا تباغتني فكرة العودة أوالإشارة إلى كتاب "الهزيمة والإيديولوجية المنهزمة" لياسين حافظ الذي إعتمد فيه الكاتب نفس منهجية علي حرب في مقاربة موضوع الإيديولوجية المنهزمة، بالتركيز على سؤال "لماذا فشلت الإنتلجينسيا أوالنخبة العربية في الخروج من مأزق الهزيمة الشاملة؟"، وإذا كان كتاب ياسين ينزوي في ركن الإيديولوجيا بإعتبارها حسب رأيه المرجع الذي صدرت عنه مجمل مواقف وسياسات مثقفي الستينيات والسبعينيات؛ فإن كتاب علي حرب ينفتح على مفهوم المثقف العربي كتجريد غير معين، إنه يقرأ نتائج ومآلات وواقع المثقف العربي بالجملة، وإن كان الرجل يعتبر من يسار النخبة العربية ومثقفيها.
ما أحاول الإشارة إليه وبالرغم من المراجع التي لا يمكن حصرها، التي حاولت تشريح الذات العربية المثقفة، فإن واقعنا الثقافي كاف لإعادة صياغة السؤال، والنظر إلى الوضع الثقافي التونسي، من زاوية الخصوصية المعممة. وإذا كان الواقع هو أب النظرية، فإن نقد المثقف والثقافة بتونس، بالنظر إلى راهننا الثقافي يعتبر فرض عين حسب ظني، وواجبا وطنيا قبل أن يكون إنسانيا. ورؤية مستقبلية لا تهتم بالحاضر والماضي بقدر ما تشرئب إلى الآتي والقادم .
إذن فمنهجية المعالجة كان محتما عليها أن تختلف، فهي لن تنحو منحى تاريخيا، كما أنها لن تتشبث بطرح سيكوباتي لوهمية المثقف، بل ستعمل على ملء فراغات واقع الثقافة والمثقف بتونس. من هنا كان لابد من أخذ مسافة طويلة من المجالين، مجال المثقف كذات إنسانية، ومجال الثقافة كحقل مفهومي. كان وضع المثقف التقليدي المدعو بالحداثي يحاول أن يسابق الوهم، فتبدو أحيانا خطواته أسرع من خطوات الواقع، وهو ما يجعله في إنفصام دائم مع الواقع، بدافع وهم سموه وقدرته الإستثنائية على رصد هواجس وآمال المجتمع، ما جعل العلاقة بينه وبين مجتمعه تنفصل تماما، ويحدث شرخ في فن التواصل بينه وبين المجتمع.
والنقطة الثانية أنه إضطلع بدور بالمهمة السيزيفية فحمل حجرة المجتمع الضخمة فوق ظهره ليوصلها نحو قمة سفح سحيق، فأعياه ثقل الحجرة وإنهار عند نفس السفح. ونسي مثقفنا أن المثقف الحقيقي هو الذي يخاطب أول ما يخاطب نفسه، قبل أن يتوجه إلى الآخر، فالآخر لا ينتظر توجيها أو دروسا بقدر ما ينتظر ممارسة يعاينها ويباشرها من المثقف. ولا بأس من التذكير هنا أن كل مثقفينا يتوجهون إلى القارئ من منظور المعلم أو المرشد، وأي واحد منهم لم يقدم ولو نظرية واحدة، ولم ينجز مشروعا معرفيا واحدا، وكأن إكتساب تقنية الكتابة تمنحه شيكا على بياض ليمارس أبوة وهمية أو وصاية موهومة، أوتوجيها فقاعيا على مجتمعه.
ومن خلال علاقاتي البسيطة بمثقفين تونسيين، إكشتفت بؤس العلاقات الإنسانية للمثقف التونسي، فهو خارج الشلة الإنتهازية يكاد يصير نكرة بين شرائح المجتمع، وهو ما يولد مزيدا من العزلة العصابوية- من العصابة- بين مجموعة من المثقفين الذين يستحوذون على مؤسسات إجتماعية أو ثقافية وسياسية.
قليلون هم من يمتلكون فن التواصل الإجتماعي البسيط والعفوي، وكأنهم يحملون قبعات مختلفة عن أفراد المجتمع الذين يتحدثون للأسف بإسمه ويرومون توجيهه عبر صفحات كتاب أصم، أوعبر شاشات المواقع الإجتماعية الحيادية، أو البلتوهات التلفزية، أوالمنابرالإذاعية. فكيف لمثقف في تونس أن يدعي ثقافة، وهو يعيش ضمن مناخ وبيئة ثقافية مصادرة ومستلبة، ويعجز مثلا عن المطالبة بتحرير قنوات التلفزة الوطنية العامة والخاصة من يد لوبيات مالية وسياسية؟ ، وكيف لمثقف في تونس أن يدعي ثقافة ما وهو يساعد على مصادرة الوعي الشعبي، ويقف حائلا وعائقا أمام تلاقح أفكار مواطنيه من الكتاب والمبدعين؟. بل كيف ينتج العقل منتوجاته إذا إنغلق على ذاته ولم يحاور منتجات باقي العقول؟؟ فكيف لنخب و مفكرين ومثقفين أن تعيش سجينة قوالب إيديولوجية؟
إن الإصطدام بالواقع عبرالإنغراس فيه؛ هو ما ينتج مقولات غرامشي وسارتر وأدونيس حول كوجيتو المثقف، العضوية والإلتزام والإختراق وأضيف الفاعلية. فنحن ملزمون بالإضافة نزولا عند تحولات العصر وتقلبات الصراعات. نحن اليوم في مواجهة أكثر تعقيدا وشراسة من أي وقت سابق. وبهضمنا لثمثلات مثقفين من عيار غرامشي وسارتر وأدونيس، يمكن أن ننتج مفاهيمنا التي نستطيع من خلالها مواجهة أوضاعنا ومختلف التحديات التي تواجهنا اليوم والآن وغدا.
إن المثقف الذي لا يتجاوز ذاته عند كل منعطف، وعند كل تحول، إنما هو إنسان /تمثال، وهي نفس العودة إلى التقابلات القديمة لفلاسفة الإنسانية… والتجاوز هنا لايعني التماهي مع تحولات التخلف والإستعمار بجميع أنواع، أو التماهي معها بل هو الرصد الدقيق لمختلف السياسات الدولية والوطنية والإقليمية، التي تعمل على تحريف مسار مجتمعاتنا بتدرج لا يعيه إلا المثقف الناقد. وهو ما يمنحه سلطة أو على الأقل دورا ثانويا، يسجل له، في طرح البدائل، أو دق ناقوس الخطر. والمثقف التونسي ساهم بوعي أو بغير وعي في عزلته، فهو بتشبثه بمركزية مزعومة لا يحسها إلا هو، وجد نفسه في النهاية على هامش المجتمع خاصة بعد الثورة، ولا بد هنا من التنويه بذكاء النظم السابقة -البورقيبية و النوفمبرية- التي لعبت على وهم المثقف بإعتباره وليا من أولياء الثقافة، عليه الموت الرمزي والإنحشار تحت قبة قد تجيرها السلطة التنفيذية بأزهى الألوان في إنتظار زيارة مريديه، أو إغراءات مادية لتدخينه و إحتوائه و من خلاله تتم تلميح صورة النظام.
كما أن طوباوية المثقف دفعته إلى توهم تغيير العالم، وكأن ملحمة دونكيشوت قد أبدعت واقع مثقفينا بشكل مشوق. مع العلم أنه عجز عن تغيير أقرب الأوساط لديه. لابد إذن من البحث عن حلول ناجعة وآنية لتراجع دور المثقف، ولوضعه المؤسف الذي لم يعد محجوبا ومتواريا. خاصة وأن تحولات بنيوية أصابت مجمل البنى الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والمعرفية، مما أثر سلبا على وضع المثقف بتونس و العلم العربي عموما.