في العالم الثالث، وما أظننا ننتمي إليه، بل ننتمي إلى عالم خامس أو سادس، لا يمكن أن نتحدث اليوم عن زعيم أو قائد، كل ما يمكن الحديث عنه اليوم في تونس، مثلا، عن رئيس حزب أو نقابة أو منظمة أو جمعية، ولا تسأل عن طريقة توليه هذا المنصب، فالآلية الديمقراطية الإنتخابية مكفولة، وبشفافية مطلقة خاصة في أحزابنا. وصناديق الإقتراع زجاجية وشفافة تعكس بصدق محايد ما وضعوه فيها من أوراق التصويت.
لم نعد بحاجة إلى بحوث في علم الاجتماع أو علم النفس، لقراءة شخصية زعيم تونسي، يكفي أن تسويقه عبر أجهزة الإعلام التي يسيطر عليها محركوا المشاهد السياسية والإجتماعية والإقتصادية، ليخلق لنا زعيم من مختلف الوسائط اللإعلامية، وتعمم صوره وخرجاته في الجرائد الورقية والإلكترونية، وتخصص له مواقيت الذروة في التلفزيون الخاص الذي يصفونه زورا عموميا، وتطبل له الإذاعات الخاصة والعمومية.
وإن سألت عن كاريزما أو شروط القيادة، فعليك بدراسة سلوك رؤساء الأحزاب والمنظمات التونسية بتنوعها وإختلافها، فمنهم من يتربع على عرش حزبه منذ زمن الديكتاتورية أو كما يحلو لهم أيام العمل في السرية، وهو في حزبه زعيما بفضل آلية الديمقراطية!!!، وكأن الأحزاب لم تنجب غيرهم من الجهابذة لتحمل المسؤولية، فهو الناطق الرسمي للحزب وهو المنظر وهو المتحدث في الندوات والضيف في البلاتوات التلفزية والإذاعية وكذلك المرشح للإنتخابات الرئاسية.
الزعيم في تونس وخاصة بعد الثورة، أصبح يخرج من قمقم الإعلام أوالنظام، كما يخرج عفريت علاء الدين من مصباحه. فهو المنقذ والمخلص ورجل المرحلة التي لا يعرف حل شفرتها إلا هو. زعيم جاء من أدغال المناورات الكيدية، أو من بركات قراباته العائلية، ومن علاقاته الإعلامية والمالية، أو من إرتباطاته ومباركته من دول أجنبية، وفلسفة نجاحه الوعود والمشاريع وكثرة الكلام والعهود. ويبقى الضحية دائما الشعب المقهور من المعطلين والعمال المقهورين الذين أصبحوا بقرة حلوبا إمتصوا ضرعها إلى نهايته، فالشعب المسكين هو من يدفع الثمن ويتحمل ردائة المؤسسات الصحية وترهل البنية التحتية وغلاء المعيشة وحتى إنتشار القمامة والفضلات.
فالزعيم يعجز عن نقاش مفتوح، يجهل التحديات الحقيقية لوطنه وحتى خيراته وثرواته، مجمل معارفه تتعلق بحزبه وبأصدقائه، ولا يحسن غير لغة الدجل والتدجين، والكذب على الشعب، فهو لا يملك حلول ناجعة ولا برامج واضحة للخروج بالبلاد من الأزمة الإقتصادية، ولا رؤية واضحة للمشاكل الإجتماعية.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد أو في هذا الجانب، فنحن نتحدث عن صناعة، أو ما يسميه البعض بفن صناعة القادة، وهو فرع مهم من فروع العلوم السياسية التي تدرس منذ مدة في أعرق الجامعات الغربية. يكفي أن نتحدث عن كتاب الأمير لميكيافيللي، ليأخذ المرء نظرة موجزة عن صناعة القائد، أو ما يسميه ميكيافيللي " الأمير "، وهي شروط أعقد من الشروط التي يضعها منظرو التنمية البشرية الذين كثروا في هذه الأيام عندنا، حيث يضعون ثلاث شروط أو خصائص، وهي ما تعلق بالجانب الذاتي، والجانب النفسي، والجانب الإجتماعي.
وهي كما قرأتها في أكثر من مرجع مفاهيم مدرسية جافة، وتنظيرات بسيطة، لا تغوص في جوانب التعقيدات التكوينية التي يخلقها أكثر من عامل خارجي، سواء تعلق الأمر بالمناوئين المحليين، أو بالتوافقات الخارجية، أو بالشخصية في حد ذاتها. لكن السؤال هنا، هو سؤال الحضن الذي خرج منه هذا الزعيم، أو مجاله الإجتماعي، وجلهم خرجوا من عباءات الأحزاب، أو من جلباب النقابات والمنظمات الوطنية وحتى الدولية.
وهو ما يجرنا إلى الحديث عن طبيعة هذه الأحزاب والنقابات التي أفرزت لنا مثل هذه القيادات المعيبة والمشوهة القابلة للحرق ليل نهار وفي أي محطة أو حدث. فالأمر لا يتعلق بتسفيه أو إحتقار، بقدر ما يتعلق بتوصيف موضوعي لما أصبح يعيشه مفهوم الزعامة أو القيادة في تونس "الثورة" ما بعد الديكتاتورية .