إنك لن تستطيع أن ترتاح دون فهم الواقع والوسط الذي تعيش ضمنهما، ولن تقدر على إثبات ذاتك دون تفكيك آليات إشتغالهما والعبور عبر الفجوات الضخمة التي تفصل علاقاتهما الضبابية. فالمجتمع التونسي مجتمع بسيط بالنظر إلى تعقيدات المجتمعات الغربية، الصناعية والتكنولوجية.
لقد ظل المجتمع التونسي منذ عقود، مجتمعا زراعيا بالأساس، وهو لايزال إلى الآن مجتمعا بدائيا يعتمد على إشباع البطن ولا يفكر في إشباع العقل. إن هذه المقولة تظل صحيحة إلى حد كبير، خاصة إذا أدركنا أن نسبة مساهمة الإنتاج الصناعي في الميزانية نسبة هزيلة، حسب آخر دراسة للمعهد الوطني للإحصاء.
والدخل الذي توفره هذه الصناعة يستحوذ عليه الإستثمار الخارجي بنسبة كبيرة، وهو شكل من أشكال الإستعمار المعاصر، حيث تقتصر العملية في مجملها على منح الأجنبي مهمة إمتصاص قدر ضئيل من البطالة مقابل الإستمتاع بالأرباح الخيالية التي يجنيها من ورائها، دون أن يعود ذلك على خزينة الدولة بشيء. في حين يفضل أغنياء البلد وهم أغلبهم من ناهبي المال العام والمهربين إلى تهريب أموالهم إلى الخارج. وهذا ما يجعل البلد دائما في حاجة إلى ضخ أموال جديدة في ميزانية الدولة، والرفع من سقف الضرائب.
وبالتالي فإن مقولة الرفاه الإجتماعي التي بني عليها النظام الغربي الجديد شيء لا يمكن التفوه به هنا. حيث أن مدخول العامل مقسوم بدقة على ضرورياته اليومية. فالأجرة الشهرية للعامل التونسي لا تكفي نسبة هامة من العمال لإجتياز أيام الشهر دون أن يستدين أو يقترض. وهذا ما يمنع المواطن التونسي من التفكير أبعد من إكراهات الحياة اليومية، ويعوقه عن البحث عن حياة أفضل، وعن كرامته وحقوقه، عن المشاركة في الحياة السياسية و في المجتمع المدني، وحتى القروض الإستهلاكية التي تقدم للموظف فهي بفوائض مرتفعة جدا، فهي لا تحل مشاكله بل تجعله رهينة للبنوك مما يزيد من تعميق مشاكله وتفقيره.
وإذا ما علمنا حقيقة علمية تسند إلى معطيات تاريخية وواقعية، فإننا سندرك مدى فداحة وخطورة وضعنا الحضاري. فعندما حاولت أمريكا معاقبة ألمانيا بعد إنهزام الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، فكر بعض القادة الأمريكيين في معاقبة ألمانيا عبر حرمانها من صناعاتها وحصر إنتاجها في الإنتاج الزراعي، وهو ما سيعرقل أي نمو حضاري للمجتمع الألماني لمدة طويلة.
لكن بعض الأذكياء من القادة الأمريكيين من قراء التاريخ، فطنوا أن هذا العقاب سيولد في نفس الألمان جميعهم كشعب عريق ونشيط، حقدا تاريخيا تجاه الغرب ككل، وسيخلق من كل ألماني نازيا جديدا وهتلرا آخر، فقرروا العدول عن الخطة الأولى، ومنح ألمانيا حق تطوير صناعتها مع ضمان وإلزام الألمان تجنب التفكير في الصناعة العسكرية والحربية، وبذلك تجنب الغرب تكرار ولادة هتلر آخر، وتكرار مأساة حرب عالمية جديدة.
إن هذه الواقعة وحدها كافية لعمقها لتفتح أعيننا عن حقيقة واقع إقتصادنا، وبالتالي واقع مجتمعنا الجاهل والفقير، فالتفقير تفكير إستراتيجي، وليس مجرد إرادة النظام السياسي التونسي خصوصا والعربي عموما، إنها إستراتيجية دولية. وغير بعيد عنا تجربة إيران، وأي دولة من العالم ثالث قررت التوجه إلى الصناعة، فإن القوى المتغطرسة بتعبير الملاليين تقف بشدة وبيد واحدة ضد إرادة التصنيع. فالصناعة هي إمتلاك التكنولوجيا وإبتكار وخلق وإبداع وتطور وإمتلاك القوة للدفاع عن النفس وحماية الخيرات والثروات والبلاد والعباد، وإمتلاك التقنيات الجديدة والتحكم في الصناعات الذكية، بينما الزراعة مجرد فعل روتيني لم تتطور آلياته منذ قرون، ولم تكن لتتطور لولا تدخل الصناعة فيها وتطويرها لآلياتها وتقنياتها، فحتى الزراعة لا تتطور بدون صناعة، فكل تطور يخضع للآلة والميكانيك.
من هنا بات سهلا علينا الوقوف بدقة على طبيعة علاقة المجتمع التونسي، ومستوى تفكير أبنائه. حيث يسيطر أصحاب السلطة والمال المرتهنون للمستعمر على كل مفاتيح البلد ويصنعون بأبنائه ما شاؤوا دون أي وخزة ضمير. ولولا تلك التراكمات الجنينية التي بدأت تظهر في بعض الإحتجاجات المتقطعة هنا وهناك كانت بدايتها بأحداث الحوض المنجمي 2008 و بن قردان 2010 وصولا إلى الهبة الشعبية التي إنطلقت في سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010 للتحول من إحتجاجات متقطعة إلى ثورة شعبية أسقطت المخلوع وأبهرت الدول الغربية وإنتشرت ووصل صداها لعدة دول عربية، وهي إحتجاجات كان هدفها المطالبة بالحرية ومكافحة الفساد و العدالة الإجتماعية، وساهمت التكنولوجيا الحديثة وخاصة المواقع التواصل الإجتماعي، والقنوات الإخبارية الأجنية التي أصبحت تغزو كل بيت وفرد في المجتمع التونسي، في إنتشارها وتواصلها وفي فضح كل ممارسات النظام ضد المتضاهرين والتي في الأخير إنتهت بسقوطه. مما ساهم في إنبلاج فجر الحرية بتونس ودخول البلاد إلى نادي الديمقراطية كأول بلد عربي بعد إجهاض الثورة المصرية.
ولكن المسار الثوري الذي بدأ بسقوط النظام و فجر موجة من الحرية والديمقراطية مازال لم يستكمل بعد، فالبلاد مازالت تعاني وضعا صعبا على المستوى الإقتصادي ومازالت الإحتجاجات الإجتماعية متواصلة إلى حدود كتابة هذه الأسطر، ومازال الفساد مستشري في البلاد وحتى بعد الحملة الأخيرة والتي أسفرت عن عدة إعتقالات في صفوف رجال الأعمال والمهربين.
غير أن التاريخ السياسي وعلوم الاجتماع علمانا الحذر من ، ومن ردات الفعل اللاعقلانية. فالشروخ تظل دائمة في جسد المجتمعات الإنسانية التي إتضح عبر إستقراء طويل لمختلف الثورات أن ثمة فجوات كبرى دائما ما تقلب الطاولة على أصحابها وعلى أرقى العقول الإستخباراتية. فمتى تستكمل أركان الثورة وتتحقق الرفاهية الإجتماعية في تونس؟ وكيف ننتقل من دولة زراعية إلى الدول الصناعية؟