الجميع يعترف بتونس؛ سلطات وأحزابا وجمعيات ومنظمات وباحثين وناشطين سياسيين ومستقلين، إن أكبر حزب في هذا البلد، هو حزب المقاطعين والساخطين والناقمين... إلخ، ممن يطلق عليهم "الأغلبية الصامتة ". هذا في جانب الأفراد والأشخاص الذاتيين، أي الجهة غير المهيكلة والمنظمة. بالإضافة إلى جمعيات وأحزاب ذات تنظيم مهيكل ومنظم، تتفاوت نسبة أعضائها بين رقم كبير، وبين أرقام صغيرة.
وهو ما يمنح تونس قاعدة ضخمة من العازفين عن العمل السياسي التفاعلي، ويترك مساحات سياسية شاسعة فارغة يستحوذ عليها السياسيون التفاعليون، رغم رداءة إشتغالهم وسوء نتائجهم وضعف برامجهم. فماذا لو إقتصر كل ناشط سياسي على مساحته الحقيقية؟. ماذا لو هبت الأغلبية الصامتة ورتبت بيتها المهجور بما يليق بممثليها من ذوي الخبرة السياسية والإدارية والميدانية وخاصة أن أغلبيتهم من الشباب الناشط بالمجتمع المدني والذي يتقن فن التواصل الجماهيري والعمل الميداني ومطلع على مشاكل أقرانه من الشباب العاطل، وإنخرطت في اللعبة السياسية من أجل تجسيد رهاناتها وبرامجها وتحقيق تطلعاتها؟
هل تسمعون وتتابعون صفير التعاليق والتحاليل الجارفة حول توصيف اللعبة السياسية بتونس بإعتبارها لعبة يحتكرها القصر، ويوزع الأدوار حسب هواه على من يلعق حيطانه الصماء؟ على من يغمض عينيه على فشله، ومن يضخم إنجازاته، ويبرر هفواته.
جميع أطياف الجوقة الصامتة تنفجر في وجه الفراغ، ويرتد صداها كنغمة تملأ فضاء المكرَّسين للفرجة والتصفيق السلبي. وكأنه يفتقد لهويته ووطنيته، وينتظر من القصر وأعوانه الإعتراف به كفرد مجهول الملامح، إلا من عنوان وسنة الميلاد، وبطاقة تعريف وطنية تثبت الهويه التونسية.
نعم السلطات تتجاوز سلطاتها وخاصة عندما يتم الإعتداء على طلبة مارسوا حقهم الشرعي في الإحتجاج، كما حصل لطلبة الحقوق، وهنا على كل من تم الإعتداء على حقوقه أن يرفع صوته عاليا ويقوم بجميع الإجراءات القانونية التي تمكنه من إسترداد حقوقه المسلوبة، بممارسة جميع أشكال الضغط القانوني والثقافي والإجتماعي والشعبي. بما في ذلك اللجوء إلى الهيآت الدولية بعد إستنفاذ جميع الإجراءات الوطنية ولم لا الإقليمية!
رغم غياب الفاعلية الإقليمية. الهيآت الوطنية وخاصة منها الأحزاب التي دعت منذ عقود لوحدة الصف كما حدث في 18 أكتوبر 2005 في وجه الديكتاتورية، وإعتماد مقاربات تشاركية، تقف دائما عند الخطوة الأولى المتمثلة في تفاهمات فوقية، بعيدا عن المناقشات الجادة بين القواعد، وبين جميع أطياف المقاطعين، فهي لا تبحث عن تفاهمات وحلول إستراتيجية بل تلجأ لمناورات تكتيكية. لكنها عند أول إمتحان لها لإختبار تماسكها تتفكك، كما حدث في خضم إنتصار الشعب التونسي في ثورة 17 ديسمبر على الديكتاتورية، فبعد نشوة الإنتصار بالثورة بدأت تُستل الخناجر، وتُكال التهم بين رفاق 18 أكتوبر، فحدث الشرخ الذي كشف عورة بعض الجهات الحزبية الإيديولوجية. وجعل الكثير من المنخرطين المستقلين و المتعاطفين مع جبهة 18 أكتوبر يطرحون أكثر من علامة إستفهام حول أبعاد وأهداف و أسباب هذا الشرخ.
وهو عين ما كان يهدف إليه المخلوع ونظامه عموما. وقد تحقق له ما أراد بفعل سذاجة البعض، وعقد البعض الآخر، دون أن يخسر شيئا وخير دليل على ذلك عودة رموزه إلى صدارة المشهد وتعمد إساءتهم للثورة ومكاسبها وخاصة السياسية وسعيهم لتمريرهم قوانين لإرجاع المفسدين ورموز الديكتاتورية. بل هو من إستفاد من أجواء الحراك الإجتماعي الذي تلا الثورة و فشل الأحزاب السياسية في إدارة الدولة، كبضاعة تسويقية في الخارج. بينما الكتلة الصامتة إكتفت بالعودة إلى صمتها وهي شبه مصدومة بما أقدمت عليه بعض الأطراف التي تتغذى على الرفض السلبي عوض الرفض الإيجابي.
إنها تجربة مادية وعيانية، ولا تحتاج إلى مرجعيات تاريخية موغلة في ماضي التجربة السياسية التونسية. فعلا وجب الإنتباه إلى جميع تفاصيل أسباب الفرقة والبلقنة التي تعيشها جميع الفصائل والكتل السياسية التي تدعي أنها تحمل مشروعا إجتماعيا ووطنيا. فالمجتمع ليس منتوجا يحتكره أي إن كان. كما أن الوطن يسع الجميع في ظل برنامج واضح وشفاف لا يختفي وراء الشعارات الطوباوية والميتافيزيقية، وهي الشعارات التي يضمن بها المحارب الجبان تبريره الذي يشفي غليل رؤيته المحدودة، وإفتقاره إلى الأسلحة المتطورة والكافية لدخول ميدان المعركة السياسية المباشرة. وإكتفائه بصراع الجارات وهن يتبادلن الشتئم من وراء أبواب المنازل، أو وراء نوافذها.
مالذي تطلبه تونس اليوم؟ وماذا يطلب التونسيين الآن؟. نحن اليوم أمام صراعات كونية مغايرة، وأمام تحديات عالمية غير مسبوقة. لكن خطاباتنا وإستراتيجياتنا، بقيت هي هي، ولم يتغير فيها شيئ. نفس الخطابات التي ترعرعنا عليها، تُقدم لأبنائنا. ولو تركنا الفضاء لهم، فسوف يورثونها لأبنائهم، ولوتركنا الساحة لهم فسوف يستعبدوننا من جديد، ويرجع عهد الإستبداد وسلب الحرية وإنتهاك الحقوق السياسية والثقافية والإجتماعية، لو تركنا البلاد لهم سوف تستمر سرقة البلاد ونهب الخيرات والثروات، بينما الوطن يستفيد من خيراته ومنجزات أبنائه الأحرار من نكيل لهم كل أوصاف الذم والقدح.
فهل نترك الوطن على نفس التقطيع الطبقي، لنورث أبناءنا نفس الخطاب الرثائي؟. وهل أسقط يوما شتم وسب ديكتاتورا من عرشه؟. المستبدون يسقطون بوسيلتين لا ثالث لهما إلا الموت: التغيير الثوري، أو الإنخراط العقلاني في معركة سياسية شرسة.
لم تبق هناك فرص كبيرة، فلو إعتمدنا قياس الشاهد على الغائب، فإننا بالتأكيد سنخرج بنفس النتيجة، سيادة خطاب اليأس والإحباط، وإمتهان وضع الضحية، بينما العدو يستثمر نفس الخطاب ونفس الوضع للإمتداد والتوغل أكثر. وعليه، لابد من إعادة النظر في جميع خطاباتنا وسلوكنا. لابد من النزول للواقع ومساءلته مساءلة المكاشفة، ليتحمل كل منا مسؤوليته أمام الجميع، بما في ذلك المستقبل.