أنظمة فاشلة ضد شعوب ناضجة

Photo

مرض الحكام العرب وكثير من المثقفين الذين يدورون في فلكهم، مرض خبيث ومزمن، إلى درجة أن يتوجه الحاكم العربي بخطابه لمدح شعبه وكفاحه ونضاله، ويتغنى بفضائله وتضحياته الجسام، بل إنه يتباهى كثيرا بنموذجية تجربته الديمقراطية والتعددية السياسية. لكنك حين توجه إليه السؤال مباشرة، ولماذا لا تمنح هذا الشعب كل حقوقه السياسية والإجتماعية والثقافية؟.

يجيب بعد تلكؤ وتردد أن الشعب لم يستوعب بعد كل مستويات وتدرجات الديمقراطية، وهو لايزال قاصرا. مع العلم أن توصيف أي شعب بالقصور هو إهانة مباشرة للنظام نفسه. لأنه عجز منذ عقود عن تأهيل الشعب وإنضاجه.

ولربما كانت ثورات الربيع العربي رغم إختلافاتنا العميقة حولها، أوضح مثال على الرد على تهمة القصور، فهذه الثورات قامت رغم مساحات الجهل والأمية المتفشية في المجتمعات العربية، من أجل الحرية والكرامة وكسب الرزق. ولايمكن لأي شعب يطالب بهذا الثالوث المقدس أن يكون جاهلا. بل تعتبر هذه المطالب عند جميع المفكرين والفلاسفة وعلماء الإنسانيات من أنبل مطالب الإنسان. فالحرية منحة طبيعية، والكرامة هي الميكانيزم الأساس الذي يصلب عود الإنسان، وكسب الرزق يبعده عن الطلب والسؤال. فالمواطن العربي على هذا الأساس خرج ويخرج من أجل مطالبه الأساسية، أصبح من المعيب في هذا الزمن، لما تزخر به الأرض العربية من ثروات وخيرات، ولما يمتلكه الإنسان العربي من همة أن يعمد إلى الخروج للإحتجاج والتظاهر من أجل مطالب وحقوق كان عليها أن تكون مجسمة ومحققة منذ عقود، لإعتبارات تاريخية وثقافية وإقتصادية ودينية وحقوقية.

كثيرون ممن يخلطون بين الديمقراطية كمقولة تلفظية وبين الديمقراطية كممارسة عملية، وهذا الخلط لا يأتي من خلل علمي أو تمثلي، بقدر ما يأتي عن وعي متجذر بضرورة التغني بالديمقراطية وممارسة الإستبداد. فالتقارير الدولية المتواطئة، لا تأخذ إلا بالمكتوب والملفوظ، أي بما هو صوري، ولا تعايش الواقع والمعيش. فيغدو الكلام والحروف أكثر سطوة من الممارسة والعيش اليومي.

ثمة إذن تعالي ومفارقة بين نظرية المؤسسات الإمبريالية، شرقية وغربية، عن واقع الممارسة السياسية في العالم العربي. هذا التعالي نفسه يجد أحيانا نفسه معزولا عن عمليات التأثير التي يتوخاها ويهدف إليها، فينحو إلى الهبوط إلى بعض مطالب هذه الشعوب، رغم إنزواء أغلبية مثقفيها عن مقارعة همومها وإنخراطهم في تلميع صورة الحاكم و تبرير ممارسات الأنظمة. لكن الأتاوات والرشاوي العربية التي تتلقاها تلك المعاهد والمنظمات تجعلها وتدفعها إلى السقوط في فضائح أخلاقية ضخمة. بإستثناء مؤسسات ذات إشعاع وحضور دولي ضاغط، كهيومان رايتس وووتش ومنظمة العفو الدولية.

ومن هنا تنكشف اللعبة الأممية الخبيثة التي تهدف أساسا إلى إركاع شعوب العالم العربي إركاعا دائما وأبديا، إنطلاقا من مقولة "الإستبداد الشرقي" ، أو طبيعة الإنسان العربي على الإستسلام والخضوع والذل. وهي نظرية قديمة، قد نعثر عليها مثلا في كتب عتيقة كالرسالة القشيرية أو مقدمة ابن خلدون. لكنهم يتغافلون عن الشعوب الأوروبية والأسيوية الصفراء، التي عاشت بدورها مراحلها الإستبدادية والقهرية في أبشع صور الإستبداد والطغيان. مع العلم أن الديمقراطية بمفهومها الحديث هي إبنة طور التنوير والنهضة الأوربية، التي إبتدأت منذ القرن السادس عشر بإيطاليا. وتطورت إلى ما نعاينه اليوم من رفاه ونظام وإنضباط وعدالة إجتماعية.

وقد أصبح من غير المنطقي أن ينعت الشعب العربي بالقصور وعدم النضج لقبول الديمقراطية بسبب دينه التوحيدي أو ثقافته العربية، في حين يتحول شعب يعبد الأبقار والأحجار وسائر الحشرات، مع إحترامنا لعقائده من أكبر الديمقراطيات العالمية، وجنة للحرية وعلى أرضه تتحقق الكرامة والعدالة الإجتماعية.

إن مطلب الحرية الذي جاء في أول مطالب الشعوب العربية، هو الجوهر الذي يتم الإلتفاف عليه والصراع حوله، فالشعب الحر يمتلك الإرادة والحرية في إختيار من يحكمه ويسير شؤونه، وقد يحتج ضد رئيس أو نائب منتخب أو المسؤول الفاسد في أي وقت، وهذا حقه، مادام قد أبان عن قصوره في إستيعاب وظيفته وأهدافها وغاياتها. وهو التعليل الذي إستندت إليه المحكمة العليا بباكستان لعزل الرئيس نواز الشريف "فقدان الأهلية"، لإختلاسه أموالا عامة. فالتلاعب بالأموال العامة خط أحمر عند الشعوب والأنظمة التي تحترم نفسها.

وما دمنا، نحن في العالم العربي عموما وتونس خصوصا، شعوبا وأنظمة لا نحترم ذاتنا، فإن إختلاس الأموال العمومية يصبح علامة دهاء وتفوق، وليس وصمة عار تلاحق المسؤول أيا كان. لكن الحرية المغتصبة لإستعادة الكرامة المهدورة، لتحقيق العدالة الإجتماعية، مفقودة. وإذا أراد الشعب إستعادتها وإستردادها، فإن الجواب هو عنف وقمع سلطوي لا قانوني وغير منطقي.

تماما كما حدث في تونس إبان الثورة سنة 2011 وما حدث ويحدث الآن في ليبيا وسوريا ومصر وبالحسيمة في المغرب كنموذج صارخ على فقدان الأنظمة صلاحيتها وشرعيتها الشعبية وإعتمادها على الهروات الأمنية.

وحين يحاول النظام إستدراك الأمر، فإنه يقع في شر صنيعه. وينقلب السحر على الساحر. ولنأخذ مثالا صارخا من خطاب ملك المغرب في ذكرى جلوسه على العرش 18.، حيث يصف الملك السياسيين وكثير من المسؤولين بالخيانة، ويتساءل "ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الإنتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كان هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟." وقبله الرئيس التونسي المخلوع وعبارته الشهيرة "غلطوني ومانيش شمس نزرق على الناس الكل وسوف يحاسبون..." وكذلك المقبور القذافي حين وصف شعبه بالجرذان وقال لو كنت رئيس لرميت إستقالتي على وجوهكم وتنصل من المسؤولية ورماها على بقية أجهزة نظامه... فكل النظام إذن فاشل.

وحين تكون القيادة فاشلة مع توفر جميع شروط النجاح، فإن القصور هنا يكون هنا مكمنه النظام وليس الشعب. فالشعب أبان عن نضجه ، حين قام بمسيرات وتظاهرات سلمية، لتنبيه المسؤولين عن قصورهم. في حين إستعان النظام رغم إعترافه بهذه الكارثة العظمى بقوى القمع لقمع الناضج، والدفاع عن القاصر. اللعبة بسيطة للغاية، قلب المسؤولية، وإبدال المتهم بالضحية.

إن القبض على عناصر التناقض والإمساك بها جيدا، وتوظيفها من موقع القوة، لا من موقع الحق والعدالة، هي جوهر اللعبة، فمن يمتلك السلطة، يمتلك القدرة على تأويل كل الحركات والأحداث والمعطيات. فيصبح الأسود أبيضا، والجبل بحرا والفار أسدا. وما على الرعية المقموعة إلا التصديق أوالتنكيل

فميلاد الإنسان العربي، كان مع الثورات العربية، إذ لأول مرة يقف الشعب ضد الحاكم في تاريخ الثورات العربية، وحتى وإن تم الإلتفاف على هذه الثورات بواسطة العسكر في مصر، وبواسطة النخبة السياسية بتحالف مع البيروقراطية الإدراية والقوى الدولية بتونس، وتحريف خطير وكارثي دولي في سوريا، وبتواطؤ سياسي ونخبوي مع النظام الملكي وفرنسا في المغرب، وبتواطىء عربي ودولي بليبيا واليمن، فإن هذه الشعوب لم تستسلم إلى يومنا هذا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات